“الناجي الوحيد”.. راعٍ تحولت ليلة استراحته إلى مأساة جراء قصف تركي

دلسوز يوسف/ متين حسن ـ ديرك

لم يدرك نذير خضر أن يتحول يوم استراحته في المنزل، بعد إمضاءه ليالٍ بعيداً عن عائلته يقوم خلالها في رعي أغنامه ببراري منطقة كوجرات في أقصى شمال شرقي سوريا، إلى مأساة، بعدما طاله قصف تركي على محطة ‘‘تقل بقل’’ للكهرباء برفقة الكثير من المدنيين، أواخر العام الفائت.

ولا يزال الرجل الستيني يعيش آلام تلك ‘‘الليلة السوداء’’ التي نجا منها بأعجوبة، إلا أنها أفقدته جزءاً من جسده والكثير من الأصدقاء والجيران.

وبمرور أشهر على تلك الحادثة، يروي “خضر” أحداث تلك الليلة في بهو منزله لنورث برس، بينما يسعى للتأقلم مع وضعه الحالي إذ بات عاجزاً عن العمل، والسير متكأ على عكازه.

ليلة القصف

منذ نعومة أظافره اعتاد خضر على الترحال بماشيته لتأمين طعام لها كسائر سكان منطقته الذين يعتمدون في معيشتهم على الزراعة وتربية الماشية بشكل رئيسي، الأمر الذي يدفعهم للبقاء أيام معدودة بعيداً عن منازلهم.

لكن في ليلة الـ 20 تشرين الثاني / نوفمبر العام الفائت، وعندما كان خضر عائداً للاستراحة في المنزل، أفزعه دوي أصوات قوية بشكل متتالٍ من نومه، بينما كانت الساعة قد تجاوز منتصف الليل.

لكن لم يخطر في باله أن طائرة حربية تركية قصفت محطة توليد الكهرباء التي تبعد مسافة نحو 3 كم عن منزله في قرية كلهي الواقعة على بعُد 40 كم من مدينة ديرك (المالكية) على الحدود السورية العراقية.

خرج خضر يستكشف ما حوله قبل أن يتصل به أحد القرويين ليخبره بتعرض محطة تقل بقل للاستهداف، ليهرعا سوياً إلى مكان الحادثة.

ويستحضر الكهل البالغ (61 سنة) تلك اللحظات ‘‘عندما وصلنا لمكان الحادثة رأينا سكان المنطقة متجمعين هناك، فقد حينها عامل في شركة الكهرباء حياته وأصيب آخرون’’.

وتسبب القصف التركي بوقوع أضرار كبيرة في محطة ‘‘تقل بقل’’ لتحويل الكهرباء، ما تسبب بانقطاع التيار الكهربائي عن 65 قرية، بحسب تصريح أكرم سليمان، الرئيس المشارك للنقل والطاقة في إقليم الجزيرة، حينها لنورث برس.

 ‘‘القوات الأمريكية’’

وبينما الضوضاء كانت تعم المكان، أدلى المدنيون الذين جاؤوا من القرى المجاورة، ببيان بحضور صحفي واحد، كان يعمل لوكالة إعلامية محلية، لإدانة الهجوم.

وقبل خروج المدنيين من المكان سمع صوت أحدهم يقول إن عربات أمريكية قادمة، ومع صولهم ترجل جندي واحد من العربات، يعتقد خضر أنه كان مترجماً.

وبينما كان السكان يتبادلون الحديث مع الجندي، قصفت الطائرات التركية مرة أخرى بالقرب من مكان تجمع المدنيين، ‘‘ربما كانت بمثابة إنذار للقوات الأمريكية للانسحاب من المكان’’، بحسب خضر.

وتابع: ‘‘وبالفعل انسحب الأمريكيون بينما افترق السكان خوفاً، توجهت إلى سيارتي القريبة التي لحقت أضرار بزجاجها بفعل ضغط القصف، وعندما حاولت السير أوقفني السكان للخروج معي، ليستقلوا الصندوق الخلفي لم أعرف عددهم بالضبط بسبب الظلام الدامس’’.

‘‘نطقت الشهادتين’’

وبعد الابتعاد بمسافة لا تتعدى 100 متر، قصفت طائرة تركية سيارة خضر مرتين على التوالي، لتتحول السيارة خلال لحظات إلى بركة دماء.

ويقول: ‘‘لم أسمع سوى صوت قوي ضرب سيارتي لم أشعر بآلام في بادئ الأمر، حيث شعرت بالدوار وأن السيارة باتت تميل يميناً ويساراً، قبل أن أغيب عن وعيي’’.

وبعد برهة من الزمن استفاق خضر من الغيبوبة، “شاهدت أن النيران ملتهبة في السيارة حاولت فتح الباب لكن لم أستطع، حيث فقدت القوة في يدي بسبب الكسور فقفزت من مكان الزجاج الأمامي المحطم، وعندما قفزت لم أستطع التحكم بنفسي من جهة اليمين فرأيت أنني بلا ساق’’.

لتجنب الحروق عمد الستيني للابتعاد عن السيارة عدة أمتار زحفاً، دون أن يدرك أن جميع من معه فقدوا حياتهم.

وبعد مرور دقائق معدودة “سمعت مرة أخرى أن الطائرة قصفت، حينها وضعت يدي تحت رأسي ونطقت الشهادتين قبل أن تصل سيارات الإسعاف ولم أشعر بشيء بعدها سوى أنني بالمشفى في اليوم التالي’’.

وتسبب قصف الطائرات التركية في تلك الليلة، بفقدان 11 مدنياً لحياتهم وإصابة 6 آخرون بينهم ‘‘خضر’’.

وقالت أنقرة حينها بأنها “استهدفت عناصر في حزب العمال الكردستاني”، ليؤكد خضر أن هذه الادعاءات ‘‘كاذبة’’، وقال: ‘‘جميع من فقد حياتهم هم مدنيون، لكن تركيا سعت لضرب البنية التحتية وتأليب السكان ضد الإدارة الذاتية’’.

وفي مقبرة ‘‘الشهيد خبات’’ بريف ديرك، يسير خضر ببطء بين أضرحة الذين فقدوا حياتهم، بينما يشير بيديه إلى ضريح شخص يدعى ‘‘حسين’’، ويقول: ‘‘ينحدر من قرية بروج، كان متزوجاً أولاده بقوا يتامى’’، ليشير بعدها إلى قبر ‘‘عصام’’ ويقول ‘‘هذا صحفي’’، ليتحدث بالتسلسل عن كل شخص واسمه ومن أي قرية.

رغم إصابته جثى خضر بهامته مقبلاً صور الضحايا، قبل أن يقف أمام الأضرحة ليقرأ الفاتحة.

وقال خضر وهو يتذكر الضحايا ‘‘هؤلاء ما ذنبهم، مثلاً شاب مثل حسين كان يعمل بالبناء، جاء لنجدة المدنيين لكن عدونا الذي لا يملك وجداناً عمد ليقصفه فيكون شهيداً برفقة 10 آخرين’’.

وأضاف: ‘‘صح عدونا دموي، لكنه لا يخيفنا مهما يفعل من جرائم’’.

تحرير: تيسير محمد