في أواسط آذار/مارس عام 2011 تمرد بعض السوريين على السلطات الحاكمة بتحفيز قوي مما كان يجري في مصر وتونس وغيرها من الدول العربية، في سياق ما اصطلح على تسميته “الربيع العربي”، مطالبين بالحرية والكرامة والديمقراطية. تطور التمرد خلال نحو ستة أشهر ليصير انتفاضة شعبية ذات طابع جماهيري. غير أن صراع السلطة المسلح مع قوى الإسلام السياسي الجهادي المتطرف الذي أخذ يسيطر على الحراك، قضى على الحراك الشعبي لتدخل البلد، بعد ذلك، في أزمة شاملة وعميقة لاتزال مستمرة.
مثّلت انتفاضة السوريين ضد النظام السوري خروجاً على قاعدة ثابتة مستقرة رسخها النظام كأساس لحكمه خلال أكثر من أربعة عقود من سيطرته على السلطة في سوريا، إذ جعلتهم يفكرون بصوت عال، ويطالبون بحقوقهم. فالسوري الجيد من منظور حكام سوريا كان وما يزال، هو السوري الصامت، أو السوري الصاخب الذي يردد بالروح بالدم…وهو مهدد في مقومات عيشه التي بالكاد يؤمنها إلّا إذا أحسنت ربة البيت تدبير ميزانية الأسرة، بحصر مصروفاتها على الخبز وبعض الأعشاب.
لقد نجح النظام، إلى درجة كبيرة، بالقمع والإفساد، في جعل الناس يصمتون طيلة العقود الأربعة الماضية التي سبقت تمرد السوريين عليه، نجح في تحويلهم إلى كائنات غير سياسية، حدود تفكيرهم، ومواضيع اهتمامهم، يرسمها الطبيعي واليومي، يتسولون مكرمة أو عطاء، عند كل مناسبة.
ومع أن الصراع الدامي في البلد خلال نحو اثني عشرة سنة من الأزمة التي عصفت به قد أوجد اهتمامات كثيرة ومتنوعة لدى السوريين، فلم تعد لهم بالتالي الأولويات ذاتها لاختلاف الوضعيات التي هم فيها. بالنسبة للسوريين الذين هم اليوم تحت حكم النظام السوري باتت الأولويات بالنسبة لهم تتعلق أساساً بمقومات وجودهم البيولوجية. حتى فترة قريبة كان يتم تبرير ضائقة العيش التي هم فيها بضرورات المعركة ضد الإرهاب، وبأولوية استعادة سيطرة الحكومة المركزية على الجغرافيا السورية كاملة. غير أن السوري اليوم قد نضج بما فيه الكفاية، ولم يعد يقبل تبريرات السلطة، وهو يشاهد حيتانها يتنعمون بخيرات البلد التي حازوها بطرق غير مشروعة. السوريون اليوم يحملون السلطة كامل المسؤولية عن إفقارهم بنهب ثروات البلد وتهريبها إلى الخارج، وهم يعلمون مدى الإمكانيات والمقومات التي تتوافر فيه لكي يكون بلداً غنياً. بحسب مصادر عديدة يعيش اليوم أكثر من تسعين بالمئة من السوريين المتواجدين في مناطق سيطرة النظام تحت خط الفقر. بالطبع ليس وضع السوريين في دول اللجوء أفضل.
ورغم الضيق الذي يعانيه السوريون في أسباب العيش، ورغم الفساد المستشري في المجتمع والسلطة، فهم يطالبون قادة النظام بالتدخل العاجل لإنقاذ ما تبقى من البلد والمجتمع من خلال الإسراع في الحل السياسي، والاستجابة لمتطلباته. إن إجراء تغيير جذري وشامل في نظام الحكم باتجاه تعميم مناخات الحرية والمشاركة وحكم القانون بما يؤسس لمصالحة وطنية شاملة هو المخرج الوحيد السليم من الأزمة السورية. بغير ذلك فإن كل المؤشرات والدلائل تنذر باحتمال انفجار مجتمعي يأتي على ما تبقى من سوريا وشعبها.
إن طريق إنقاذ البلد واضحة، لا ينبغي للنظام أن يخطئها تحت عناوين إدعاء الانتصار على الإرهاب، أو التطبيع العربي والإقليمي معه، فكما كانت الأسباب الرئيسة لانفجار الأزمة في بداية عام 2011 داخلية بصورة رئيسة، فإن ذات الأسباب لا تزال قائمة بل ازدادت تفاقماً. ينبغي دون إبطاء إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين، والكشف عن المفقودين والمغيبين قسراً، وإغلاق ملف السجن السياسي إلى الأبد، وإصدار عفو شامل يغلق ملفات الماضي، ويرد المظالم إلى أهلها، وتتم تسوية أوضاع المواطنين الكرد، ومن في حكمهم، وإيجاد حل لمسألتهم القومية، حلاً ديمقراطياً في إطار وحدة سوريا أرضاً وشعباً. وقبل ذلك لا بد من تعديل الدستور الذي فصله النظام على مقاسه، ليصبح على مقاس دولة عصرية ديمقراطية. ويمكن إنجاز ذلك بمصداقية عالية من خلال عقد مؤتمر وطني في دمشق يشارك فيه ممثلون عن جميع قوى المجتمع السياسية والمجتمعية والإثنية وتكون له صلاحيات جمعية تأسيسية.
إن الحل السياسي الوطني هو الوحيد الكفيل بعودة سوريا دولة طبيعية منفتحة على جماعتها العربية، وعلى دول إقليمها، وعلى دول العالم خارج أية تكتلات ومحاور إلا بما تمليه المصالح الوطنية العليا. وفي هذا السياق فهو الكفيل أيضاً بخلق مناخ استثماري يعيد سوريا إلى طريق التنمية الحقيقية الشاملة والتطور المتصاعد، ويحسن من مستوى حياة شعبها. البديل المرجح لكل ذلك استمرار الأزمة، ودخولها في مرحلة قد تكون أشد خطورة ربما يكون عنوانها العريض “ثورة الجياع”.
إن مطالب الشعب السوري واضحة وصريحة، فيها خلاص البلد، بل خلاص الحكام أيضاً لو يعلمون. يريد السوريون إنجاز تغيير جذري وشامل في النظام الاستبدادي القائم باتجاه بناء دولة الحرية والديمقراطية والمشاركة، دولة الحق والقانون، فهل من أولي ألباب يعقلون؟!