ليلى الغريب ـ دمشق
يعمل كل على استثمار موقع عمله بالشكل الذي يحقق له الدخل الأفضل. وإذا كان هذا الأمر ليس بجديد، فإن تراجع الدخل برر استخدام مؤسسات القطاع العام كملك خاص.
يقول المواطن علي الأحمد لنورث برس إنه أمضى أكثر من عام وهو يحاول إيصال الكهرباء إلى منزله، ولكن جهوده ومحاولاته ذهبت عبثاً مع المبررات الكثيرة التي كان يقدمها له المعنيون في الشركة من حيث عدم توافر الخشب والأكبال والأمراس، ولكن عندما توصل إلى المفتاح الخاص بالمكان وصلته الكهرباء خلال أقل من شهر.
حيث أصبح كل شيء متوفر بعدما دفع مبلغاً مجزياً لشخص، حيث يتم تقاسمه بين مجموعة من المعنيين في الأمر كما أخبره.
في كل مكان
هذا الحال تجده في كل مكان، فمرضى المشافي العامة ومعداتها تحولت إلى صيد ثمين، سواء من حيث استثمار معدات المشافي والتقاضي من المرضى الذين يتابعونهم، وكأنهم في عياداتهم الخاصة، أو استغلال سوء الخدمات لتحويل المرضى إلى العيادات الخاصة.
هنالك من يستثمر في الدم مثلاً حيث يتم بيع أكياس الدم لحساب بعض العاملين، أما المجال الأكبر للاستثمار فقد أضحى في مجال التربية، حيث أن شراء مراكز الامتحانات تحول إلى مصدر ثروة كبير للقائمين على هذه المخالفات، إضافة إلى ما يتسبب به التساهل في قمع الغش بحصول من لا يستحقون على علامات تؤهلهم لدخول مجالات لا يستحقونها وليسوا كفأ لها.
ضياع المليارات
الاقتصادي سامر كنعان(اسم مستعار) يعلق على هذه الظاهرة بالتأكيد أن هنالك من يتسبب بخسائر المليارات ليحقق أرباح بالملايين، وأن عدم علاج الحكومة لموضوع الدخول المتآكلة هو بمثابة تشجيع على الفساد وترويجه.
يضيف كنعان لنورث برس إن هناك أسباب كثيرة لهذه الظاهرة التي تصير فيها الملكية العامة نهباً لكل من يقدر على ذلك، وبعد عقود على إطلاق الشعارات الاشتراكية لإدارة الاقتصاد وتوزيع عوائده، بدأ الناس يلمسون أن الواقع غير ذلك أبداً.
فأهم تلك الأسباب هي أن إدارة الاقتصاد لم تكن في الواقع تطبق الشعارات حتى تلك التي ما زالت في دستور حزب البعث الحاكم، وبدأ الفساد يتزايد حتى وصل إلى أدنى الحلقات الوظيفية، بعدما رأى الجميع أن من يفترض أنهم القدوة يسعون لاستثمار المؤسسات العامة لتحقيق منافع شخصية.
احترام السارق
ذلك الأمر أدى إلى أن تغيب صورة المؤسسة ذات النفع العام، أو الملكية العامة، لصالح صورة المؤسسات التي يملكها أفراد حتى لو كانوا موظفين في الدولة، وصار الموظف الذي يصر على أن لا يحقق فوائد شخصية أقرب إلى “الدرويش” باللغة الدارجة، مقابل اعتراف من المجتمع بأهمية من يجمع المال حتى لو كان عن طريق سرقة القطاع العام.
مستنزفاً
الأمر الآخر المهم هو تراجع الدخل، وتدني الأجور بشكل حاد خاصة في السنوات الأخيرة، بحيث صار تأمين الغذاء مشكلة أساسية، وفي حالة التردي الاقتصادي تلك يصير من الصعب أن يلام موظف يرى أطفاله بحاجة للطعام، وراتبه لا يكفي حتى لو كان لديه عمل آخر، يصير مستنزفاً دون جدوى حقيقية.
لم يعد مجدياً
وفي قراءته لهذه الظاهرة يقول إعلامي مختص بالشأن الاقتصادي لنورث برس إن تراجع الدخل الحاد، وانسداد الآفاق أمام أي تحسن سيؤدي حتما إلى تشجيع المزيد من العاملين على سلوك كل السبل لتأمين متطلبات الحياة، ففي حالة تردي الدخل إلى تلك المستويات لن يعود مجدياً الحديث عن الفضائل والأخلاق، إذ ليس أبشع من صوت ولد جائع في أذني والده خاصة إذا كان يرى من يفترض أنهم قدوة في العمل لا يفعلون سوى تحقيق المنافع الشخصية، وكذلك عدم الشعور بأن إنتاج المؤسسة يعود بالنفع على العاملين فيها.
مناخ فاسد
أضاف الإعلامي أن غياب المحاسبة، سبب آخر، بل الأكثر دقة هو وجود مناخ عام يشجع على مزيد من الفساد في مؤسسات الدولة، خاصة بالنسبة لأولئك الذين يصلون إلى مواقعهم بعد دفع الرشى والمحسوبيات التي صارت معروفة للجميع، بل إن بعض الوظائف أو المواقع في مؤسسات الدولة بقيت سنوات تُمنح لذوي الواسطات وبما يشبه التجارة، أي أن المحظوظ الذي سيحظى بوظيفة من تلك التي تحقق له عوائد كبيرة سيدفع ثمنها كأي سلعة.
اقطاعات خاصة
وإضافة إلى النتائج الاجتماعية التي تسود فيها قيم احترام صاحب المال حتى لو كان سارقاً، فإن أبرز نتائج تلك الظاهرة تحويل المؤسسات إلى “إقطاعات” خاصة أو كما يشاع في اللغة الدارجة: تحويلها إلى “بقرة حلوب” يحقق أعلى الدخول منها صاحب أعلى سلطة ثم تتدرج الأرباح والفوائد حسب منصب كل موظف، حسب قول الإعلامي.
ليسوا ملاكاً
يضيف مدير سابق في أحد المؤسسات الحكومية لنورث برس إن الأكثر خطورة هو شعور الجميع بأنهم “ليسوا ملاكاً” لتلك المؤسسات بل فقط هم “مستفيدون عابرون” لهذا فإن أياً منهم لا يفكر بتجديد رأس المال الثابت في المؤسسة، أو الحفاظ على أصولها الثابتة، فهذا أمر لا يعني أحد إلا المالك الفعلي، وهو الغائب في الحالة السورية الراهنة لأنه يفترض أن يكون الشعب ذاته الذي يمول شراء وتشغيل تلك المؤسسات عبر الضرائب، والجهود التي يقدمها.
مهدور
وأن استمرار تلك الحالة لمدة عقود أدى إلى مزيد من التآكل في الثروة العامة ليست فقط في جانب الأرباح الناتجة، بل أساساً في الأصول الثابتة للدولة وهي التي تشكل جزءا من الدخل الوطني المهدور حسب قوله.