في لحظة مفصلية للقيصر بوتين، وعلى وقع تصدّع بيته الداخلي عقب تمرد طباخه بريغوجين عليه والهجوم الأوكراني المضاد ضد قواته وقرار واشنطن دعم خصمه زيلنيسكي بالقنابل العنقودية وعشية تكالب حلف الناتو عليه خلال قمته في فيلينوس الليتوانية، بدا السلطان العثماني أردوغان أنه ينقلب على القيصر الروسي بوتين، شريكه في الكيمياء والأحلام الأمبراطورية وعقد الصفقات، إذ فجأة بدأ يرسل الإشارات المتتالية، بأن زمن التوافق مع القيصر أنتهى، وأن لعبة تدوير الخلافات لم تعد مجدية، ويأتي ذلك في غمرة الحنين التركي للغرب والبيت الأوروبي. الإشارات التركية بدأت بإطلاقه سراح قادة منظمة آزوف ووضعهم في طائرة زيلينسكي العائدة من أنقرة إلى كييف خلافاً لإتفاقه مع بوتين، وإعلان حق أوكرانيا في الانضمام إلى عضوية حلف الناتو، والموافقة على ضم السويد إلى عضوية الحلف بعد ممانعة طويلة، وشروط تعجيزية وصلت إلى حد إبتزاز الحلف.
صدمة الكرملين كانت قوية، فسيّده لم يمدح زعيماً في حياته سوى أردوغان، إلى درجة أنه اعتبره مرشحه للرئاسة التركية خلال الانتخابات الرئاسية التركية التي جرت في مايو/أيار الماضي، الكرملين في غضبه من انقلاب أردوغان عليه، لم يجد أمامه سوى الإعلان سريعاً عن أن اللقاء المقرر بين الزعيمين الشهر المقبل لم يحدد بعد، رغم عدم مضي ساعات على إعلان أردوغان ذلك، بل ذهب المتحدث باسمه دميتري بيسكوف إلى القول إنه لم يحدد أي موعد لزيارة بوتين إلى تركيا، وأنه لا يوجد أي جديد بخصوص اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية عبر تركيا في إشارة إلى أن موسكو قد لن تجدد هذا الاتفاق الذي أعطى لتركيا دوراً دولياً خلال الأزمة الأوكرانية. والخلاصة تكمن في أن القيصر بدأ يشعر بأن تحالفه مع السلطان كان سراباً رغم كل العطايا التي قُدّمت له في سوريا، وخلال الصراع بين أرمينيا وأذربيجان، وأثناء المشاريع التجارية والاقتصادية والصناعية الضخمة بينهما، إذ إن حصان طروادة الروسي ( تركيا ) داخل الناتو سرعان ما عاد إلى بيته الأطلسي الذي يريد للقيصر أن يبقى مهزوماً داخل الروسي.
لحظة العناق والتلاقي بين القيصر والسلطان بدأت عام 2015، عندما اعتذر أردوغان لبوتين عن إسقاط مقاتلة روسية في المنطقة الحدودية السورية – التركية، ليتحول من بعدها بوتين إلى حامي لأردوغان كما تجلى في الإنقلاب الفاشل المزعوم عام 2016، لتنهال بعده التفاهمات والصفقات بينهما، وتجلّت في الاحتلال التركي لعفرين، وإطلاق مسار أستانا بفصوله ومراحلة وتحوّلاته، وصولاً إلى الجهود الروسية الحثيثة للجمع بين أردوغان والأسد، لطي صفحة العقد الماضي بينهما، وفتح صفحة جديدة تصب في الاستراتيجية الروسية “الأوراسية” في مواجهة الغرب ومظلته العسكرية المتمثلة بحلف الأطلسي.
بوتين الغارق في وحل حربه في أوكرانيا، يدرك حساسية انقلاب أردوغان عليه، وضرورة أن تكون حساباته دقيقة، لكنه في الوقت نفسه يدرك أن السماح له بتحويل هذا الانقلاب إلى إنجازات سياسية لخصمه الأطلسي، سيضيّق الخناق عليه غداً، وقد يترجم إلى هزيمة في الميدان الأوكراني، وعليه لابد من أن تكون خطواته مدروسة وموجعة، وهو في كل ذلك قد لا يجد أمامه سوى إدلب شمال غربي سوريا ساحة للمنازلة، وجعل المدار الجيوسياسي ساحة لتغيّر الحسابات بدلاً من التطلعات المشتركة، ولمَ لا؟ إذ لطالما عرف بوتين جيداً ما فعله أردوغان في هذه المنطقة بعد أن جمع فيها كل الفصائل والتنظيمات المسلحة، بما فيها تنظيماتٍ إرهابية تعمل جميعها وفق برمجة استخباراتية تركية.
بوتين في انتظاره لمعرفة نتائج قمة الأطلسي في الميدان الأوكراني على الأرض، قد لا يجد أمامه سوى الميدان السوري، وتحديداً شمال غربي سوريا للرد على انقلاب أردوغان، حيث تدرك مقاتلاته الحربية جيداً مواقع ومقار ومراكز الفصائل المسلحة، بل والجيش التركي هناك، وهو يريد من ذلك تحولاً دراماتيكياً، تحولاً من دون شك قد يقضي على رغبة موسكو في عقد لقاء بين أردوغان والأسد رغم أهميته لها، وسيقلب التفاهمات السابقة إلى ميدان للمواجهة في تاريخ قام على سلسلة حروب بين الأمبراطوريتين الروسية والعثمانية، وقد تكون سوريا وتحديداً إدلب ساحة حرب جديدة بين روسيا وتركيا، حتى لو كانت بالوكالة بعد أن كانت سوريا مساحة للتحالف بينهما، فالثابت أن العلاقة بينهما بعد انقلاب أردوغان على بوتين لن تكون كما قبل، إذ قد يكون لسان حال الطرفين في المرحلة المقبلة: إن اللعبة بينهما في سوريا انتهت.