في يوم 29حزيران/يونيو الماضي جرى تصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة من أجل تشكيل (هيئة للكشف عن مصير المفقودين في سوريا). صوًت لصالح مشروع القرار ثلاث وثمانون دولة وامتنعت عن التصويت اثنان وستون دولة وعارضته إحدى عشر دولة. كانت الولايات المتحدة ومعها دول حلف الأطلسي والحلفاء الآسيويين مثل اليابان وكوريا الجنوبية والدول الأوقيانوسية مثل أستراليا ونيوزيلندا من المصوتين بنعم، فيما كانت روسيا والصين وإيران ومعها بيلاروسيا وكوبا وكوريا الشمالية ونيكاراغوا وبوليفيا وزيمبابوي وإريتريا وسوريا من المصوتين بلا، بينما كانت أغلب الدول العربية من الممتنعين ومعها دول مثل الهند وباكستان وجنوب إفريقيا وفيتنام .
يمكن القول عن الرافضين للقرار أنهم معسكر هو في مواجهة معسكر حلف الأطلسي وحلفائه الآسيويين والأوقيانوسيين. هذا المعسكر هو في وضعية دول هي في مجابهة مباشرة مع الحلف الذي تتزعمه واشنطن، كروسيا والصين، ودول تتجه نحو أن تكون ثالث الحلف الصيني- الروسي، مثل إيران، في حين هناك دول تحتمي ببعض أطراف هذا الحلف، مثل سوريا التي تساعدها روسيا وإيران عسكرياً وسياسياً في مرحلة ما بعد انفجار الأزمة السورية البادئة عام2011، أو بيلاروسيا التي تستند للجدار الروسي، أو كوريا الشمالية التي تحتمي بالصين، فيما هناك دول عند سلطاتها اليسارية القائمة مرارات مجابهة سابقة مع واشنطن مثل كوبا ونيكاراغوا وبوليفيا، وأخرى أصبحت منبوذة مثل إريتريا وزيمبابوي.
هذه الدول الإحدى عشر تشترك في أنها إما يحكمها حزب واحد، أو فرد واحد، أو بها ديمقراطية شكلية. وبعضها يعيش تحت وطأة العقوبات الاقتصادية من المعسكر الذي تتزعمه واشنطن، كروسيا وايران وسوريا وكوبا وكوريا الشمالية، كما أن بعضها،مثل زيمبابوي وإريتريا، تعيش اختناقاً اقتصادياً ذاتياً يجعلها أقرب لنموذج “الدولة الفاشلة”. الصين في هذا المعسكر هي الوحيدة في مرتبة اقتصادية ضمن مجموعة الاقتصادات العشرة الكبرى بالعالم وهي مع روسيا الوحيدتان ضمن مجموعة العشرين. في ترتيب الجامعات الخمسة عشر الأولى في العالم لا توجد ولا واحدة من هذه الدول ضمن مئة أفضل جامعة في العالم، إذ توجد فقط أربع جامعات صينية في المراتب الـ 17و44 و50 و51 . في عام2017 كانت الصين فقط من هذه الدول ضمن قائمة الدول العشرة الأولى الأكثر إنتاجاً للتقنية العالية وفي المرتبة السادسة. صحيح أن الصين هي في المرتبة الاقتصادية الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة ولكن صادراتها واستيراداتها تعتمد بنسب تقارب ما يفوق الثلث منها على وجود شركات أجنبية في الأرض الصينية، وهذا خلل بنيوي في الاقتصاد الصيني. على العكس من ذلك فإن الاقتصاد الأميركي ذاتي المداخيل، وهناك ما يدخله أو يضاف له بمقدار الثلث من حجمه الذاتي الداخلي مما تأتي به الشركات الأميركية الموجودة أوالممتدة في الخارج. وفي الحجم الاقتصادي فإن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا مع اليابان وأستراليا ونيوزيلندا يمثلون حوالي ستين بالمئة من حجم الاقتصاد العالمي. وفي المجال العسكري كشفت أيام من الحرب الأوكرانية، بلغت الآن الخمسمائة يوم، عن ضعف كبير للجيش الروسي الذي كان يظن قبل تلك الحرب بأنه من أقوى ثلاثة جيوش في العالم.
يمكن لما سبق أن يعطي صورة عن التوازن القائم بين هذين المعسكرين، وهما في حالة تجابه روسية-أطلسية فعلية في أوكرانيا، وفي حالة ملتهبة أميركياً- صينياً في بحر الصين الجنوبي وفي مضيق تايوان، وفي حالة تنذر بالمجابهة الروسية- الأميركية في سوريا. يجب أن يضاف لموضوع التوازن أن هناك دولاً ذات اقتصاديات كبرى تحاول أخذ وضعية الحياد بين المعسكرين مثل الهند والبرازيل وأحياناً أندونيسيا، كما أن دول فاعلة سياسياً مثل تركيا والسعودية ومصر والجزائر وإثيوبيا تحاول بلوغ هذا الحياد في مواضيع ونزاعات سياسية وعسكرية واقتصادية عديدة ،كما في الموقف التركي والهندي من الحرب الأوكرانية، ولبعضها تعاونات مع المعسكر المضاد لواشنطن مثل التقاربات الروسية – التركية في الملف السوري وهو ما يقود إلى توترات بين واشنطن وأنقرة، ومثل التنسيق السعودي- الروسي في منظمة (أوبك +) بشأن الحفاظ على معدل إنتاج النفط القائم للحفاظ على الأسعار المرتفعة وهو ما خلق توترات بين واشنطن والرياض.
تكثيفاً لما سبق: خلال ثلث قرن مضى من انتصار واشنطن على موسكو في الحرب الباردة ونشوء القطب الواحد الأميركي جرت كثير من التنظيرات حول أن “العالم يتجه نحو كسر الأحادية القطبية باتجاه عالم متعدد الأقطاب”، كما كان هناك إعلانات سياسية، مثل تلك التي أعلنتها (مجموعة دول البريكس: الصين- روسيا- الهند- البرازيل” عام 2009، أنها تسعى باتجاه ذلك، ويمكن في هذا المجال أن يكون الغزو الروسي لأوكرانيا يوم 24شباط/فبراير2022محاولة انقلابية على القطب الواحد الأميركي للعالم كانت مدعومة صينياً وإيرانياً، ولكن يمكن الآن القول بأنها كانت بمآلاتها محاولة انقلابية فاشلة، رغم أنها أدت إلى انقسام عالمي جديد بين معسكرين متجابهين، مع دول محايدة أو كانت تلعب على ذلك الانقسام التجابهي، إلّا أن تلك المحاولة الانقلابية وذلك الانقسام الذي تمظهر في عالم ما بعد الحرب الأوكرانية لم يضعف واشنطن، بل على الأرجح أنها أقوى الآن من مجابهيها في موسكو وبكين وطهران الذين هم في وضع أضعف مما كانوا عليه في يوم بدء الحرب الأوكرانية.