دمشق.. من “قصر المهاجرين” إلى مأوى للمتشردين

هاني شهاب ـ دمشق

بدون مكان ينطلق منه إلى العمل يتحول “خيرو”، من ابن عزٍ في أحد أحياء ريف دمشق المنكوبة، إلى متسول على أبواب المحال التجارية ومداخل الأبنية في العاصمة ولا ينظر في حاله أي مسؤول ولا منظمة.

يفترش خيرو، (65 عاماً)، حافة الرصيف، فهو أطلق هذا الاسم على نفسه اصطلاحاً، إذ إنه غير موجود بأعين المارة وإن وجد فهو “كتلة قذرة مجردة من الحقوق وحتى من الاسم”، يطرده أصحاب المحال كيلا يجلب لهم المصائب فيتنقل أمام أرصفة الشوارع المعتمة وينتظر حلول الليل الذي يستر الكثير من عيوبه.

ويتذمر “خيرو”، من صعوبة تأمين مكان النوم أكثر من تأمين لقمة العيش، يقول لنورث برس: “اللقمة تذهب وتأتي ولكن النوم بكرامة مهمة صعبة في عاصمة الياسمين”.

دمشق التي سميت يوماً بقصر المهاجرين لما قدمته من احتواء للاجئين، الغريب قبل القريب، إلى أن وقعت في براثن الحرب التي خلفت ما خلفته من هجرة ولجوء وآلاف العائلات والأفراد مشردين خارج أي سقف أو منزل يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء.

فالتشرد كلمة تحمل من الآلام والعبء الثقيل على كل سامع ولكنها كلمة اعتيادية في حياة الدمشقيين. فلأكثر من عقد من الزمن عاش السوري بأدنى مقومات الحياة ولكن “بكرامة” إلى أن سكبت هذه الحرب ماء وجه العديد من العائلات السورية التي أنهكتها لقمة العيش وجيل من الأطفال بلا تعليم ولا مأوى.

يواسي الناس في شوارع العاصمة دمشق، أنفسهم بأن كل من ينام في الشوارع إما “مجانين أو أثرت الحرب على آليات تفكيرهم أو حتى عاجزين وبأبسط الأحوال هم محتالون يستجدون الشفقة”.

ما خفي كان أعظم

في أعداد غير رسمية، هُجّر أكثر من خمسة عشر مليوناً من منازلهم داخل الوطن وخارج أبوابه، منهم ما يقارب المليون ممن يفترشون الطرقات.

فالبنية التحتية في دمشق لم تستوعب بعد كل مفرزات الحرب ولم تحلَّ أي مشكلة من مشكلاتها فلا المناطق المهجورة التي حوت الملايين من الأسر السورية لها القدرة على إعادة احتضانهم ولا وجود لجمعيات ولا قروض سكنية لإعادة بعض العائلات، بحسب سكان في دمشق.

أما الإيجار فهو لا يتناسب مع أي مرتب للعيش ضمن المعقول، فتترك كل هذه المعطيات الكثير من الأُسر في العراء حرفياً، وفوق ذلك تغلق الحكومة مراكز الإيواء بحجة انتهاء الحرب وتحرير المناطق حتى لو كان ذلك دون تأهيل أماكن لاستقبالهم.

فقر وتشرد سبب لظواهر أخرى

حدائق الزاهرة في دمشق والمرجة والقشلة ومروج المحلق الجنوبي، اتسعت للعشرات بل المئات من العائلات والأفراد الذين يتعرضون للذل وللانهيارات الأخلاقية الإجبارية التي يسلكونها لتأمين حاجياتهم.

التسول والدعارة والسرقة وعصابات سرقة الجوالات، كلها نشأت من الشوارع، ولكن هناك العديد من الشرفاء الذين وضعتهم الظروف والإهمال في مواجهة كل ما سبق.

وتقسّم “أم مؤيد”، كما عرفت عن نفسها، وهي نازحة من إدلب، تعيش في إحدى حدائق دمشق الرئيسية، النهار على أقسام, فتنام ابنتيها ساعات الصباح الأولى في حديقة المالية خلف ساحة الشلال ريثما تستطيع الأم والصبية، اقتراض بعض الأرغفة من مشتري الخبز في الأفران دون وعد بإعادتها.

وحتى يحين موعد الوجبة القادمة تتحرك “أم مؤيد” إلى بيوت أو محال بعض أبناء حي المزرعة للتنظيف مقابل ثمن وجبة الفلافل الشبه يومية لإطعام الأسرة، بعدها تستريح بالحديقة لتستيقظ ابنتيها ويلعب الصبيان قليلاً فهم المسؤولون عن حماية بطاقة والدتهم الشخصية والتي تسمى “الهوية” أما هوياتهم فمجهولة مثل مصيرهم.

أخيراً يأتي الليل وما يحمله من مناظر موحشة في حدائق الشام فالزنا العلني والدعارة والفاحشة مشاهد تحاول أن تبعد “أم مؤيد” أبنائها عنها وهي وحيدة لا تملك أي قريب ولا تعلم أين اعتقل زوجها منذ أكثر من عشر سنوات. لتطوف ثلثي الليل لتجد مكاناً مناسباً بعيداً عن الشرطة والدوريات الليلية لتختفي به وتنهي يومها البائس.

يرى سكان في دمشق أن مشكلة التشرد قد عشعشت في كل زوايا المدينة وحلها يحتاج إلى جهودٍ حثيثةٍ حكوميةٍ ومدنية، وإلا فإن حال هذه الفئة سيبقى ضمن سقف المجهول ولكنه حتماً نحو الأسوأ.

تحرير: تيسير محمد