توزعت النظرة إلى تاريخ سوريا بين معزوفتين رومانسيتين، إحداها تعيد التاريخ السوري إلى أكثر من ثمانية آلاف عام، مضافاً إليها زخرفات حماسية من قبيل اكتشاف الأبجدية ومنبع الحضارات وموطن الأنبياء، وما إلى ذلك من أوصاف تسلب العالم كله من كل ما هو جميل وتنسبه إلى هذه البلاد “العظيمة”. فيما المعزوفة الأخرى هي المعزوفة العروبية، البعثية، التي تجعل من سوريا قطعة مجتزأة من جسد وطن عربي عظيم يمتد من المحيط إلى الخليج، وقد تم نزع هذه القطعة من الأرض العربية الخالصة من الوطن العربي الأم إثر مؤامرات دولية مطبوخة في دهاليز الامبريالية والصهيونية والرجعية، إلا أنها كانت وستبقى هي و عاصمتها دمشق، قلب العروبة النابض.
وقد تربى على هذه المعزوفة الأخيرة أجيال من السوريين الذين حملوا في رؤوسهم هذا الافتراض، كأيديولوجية ثابتة لا تتزعزع، وكعقيدة غير قابلة للشك أو النقاش. وبالتالي فإن كل من لا يؤمن بهذه العقيدة أو يعارضها أو يرفضها فهو إما متآمر، أو إنفصالي، أو عميل لإسرائيل وأمريكا. وأضحت هذه الأيديولوجية هي الحامل المشترك لكل من يعيش على الأرض السورية. بكلمات أخرى، أصبحت هذه المعزوفة هي الهوية القسرية المشتركة لكل السوريين، وبقوة القانون. وقد نصت المادة الثامنة من الدستور بصريح العبارة على ذلك، من خلال تولي حزب البعث لقيادة الدولة والمجتمع في سوريا. وإذا وضعنا أمر حرمان قسم من الكرد السوريين من الجنسية جانباً، فإن القسم الآخر حمل في جيبه هوية مكتوب عليها “عربي سوري”، أي أن الجميع عرب، حتى لو كنت كردياً تعيش على هذه الأرض منذ مئات السنين، فأنت عربي الهوية. ومن المفارقة أن تنقاد بعض الأحزاب القومية الكردية أيضاً إلى فخ اختزال المشكلة الكردية في حرمان بعضهم من الجنسية السورية، في حين أن المشكلة الأساسية كانت ومازالت كامنة في فرض الهوية العربية على الكرد السوريين، وأن إعادة أو منح الجنسية العربية السورية للكرد المحرومين منها لن يحل شيئاً من المشكلة الأساسية.
ثمة حقائق بسيطة تنسف النظريات الحماسية عن التاريخ، فإذا تمعنا قليلاً في التاريخ القريب، نجد أن تاريخ الدولة السورية المستقلة لا يمتد إلى مائة عام، فما بالك بآلاف السنين. كما أننا نجد بأن لا دور يذكر للعرب و لا للأمة العربية، ولا للشعب السوري لاحقاً بكرده وعربه برسم خارطة الحدود السورية الحالية، بالتالي فإن قيام سوريا ماهي إلا تحصيل حاصل لاتفاقية خطها سايكس الإنكليزي وبيكو الفرنسي بعد زوال الدولة العثمانية. وأن التعايش القسري في إطار هذه الخارطة التي رسمها الفرنسيون والإنكليز قد فرض على جميع من يعيش في إطار هذه الخارطة المرسومة لهم، دون إرادتهم.
لم تترك السلطنة العثمانية المنهارة للشعوب التي كانت تعيش في ظلها طوال أربعمائة عام أي أثر فكري أو ثقافيّ لها عبر التاريخ، إلى جانب مراكمة الخرائب والهويات غير المتجانسة وإشاعة الفوضى العارمة التي انتهت بمجيء الاستعمار الأوربي كسلطات احتلال جديدة، تحت مسمى الانتداب.
وقد كانت سوريا من نصيب الفرنسيين الذين ما إن رحلوا حتى تزاحم العسكر على السلطة فيها، وتوالت الانقلابات العسكرية التي انتهت باستلام حافظ الأسد، رأس السلطة العسكرية آنذاك، الحكم. وبدأت ما سميت بحقبة البعث، التي ورثها الابن عن أبيه، وهي مستمرة حتى الآن. حيث لم يتح للشعب السوري أن يبني مشروعه الوطني القائم على المساواة في الحقوق والواجبات بين أفراد هذا الشعب. وظلت التناحرات القومية والمذهبية تنتعش في الظل، في حين قدم خطاب السلطة صورة زاهية عن مجتمع منسجم ومستقر ومتآلف وملتف “بالدم وبالروح” حول قيادة حكيمة هي قاب قوسين أو أدنى من تحقيق “الرسالة الخالدة”، لهذه الأمة الواحدة المترامية الأطراف من المحيط إلى الخليج.
ساهمت هذه الهوية القسرية في نمو سياسات طائفية في الظل، وأخرى قومية الطابع من جهة أخرى، حيث الإنكار التام لوجود الشعب الكردي الذي يعيش على أرضه منذ قرون، و ألحق جزء من هذه الأرض التي سميت كردستان، بالحدود التي رسمها الإنكليز والفرنسيون للدولة السورية الحالية، ليتم حرمان قسم منهم من الجنسية السورية لاحقاً، وتعريب القسم الآخر منهم وتسجيلهم كعرب سوريين في السجلات الرسمية. هذا عدا عن السياسات الاستثنائية التي اتبعت بحقهم منذ نشوء الدولة السورية وحتى الآن، وأبرزها مشروع “الحزام العربي”.
أما تجليات فشل المشروع الوطني السوري في المشهد السياسي فتظهر في اختلاف السوريين حول تسمية ما حدث في العام 2011، فيما إن كانت ثورة أو أزمة أو أحداث أو حرب، لكن الجميع يتفق أن ما حدث كان تعبيراً صارخاً عن فشل المشروع الوطني السوري، وبرهاناً قاطعاً على مدى هشاشة الهوية السورية التي من المفترض أن تكون جامعة لهم، لصالح هويات أدنى، مذهبية وطائفية وقومية وعشائرية. وشهدنا نموذج السوري الذي يحمل سلاح سيّده التركي ليقتل به السوري الآخر، وتحول إلى رأس حربة للجيش التركي لاحتلال أراض سورية، وهو على استعداد للتضحية بنفسه في سبيل الأمن القومي التركي ليس في سوريا فحسب، بل في ليبيا وأرمينيا وأذربيجان. وفي المقابل يحمل السوري الموالي للنظام سلاح الإيراني والروسي ليقتل به سوريين وينفّذ أوامرهما. ويتفق النموذجان على معاداة الكردي السوري، باعتباره “إرهابياً” و”انفصالياً”، وفق وجهة النظر التركية التي يتبناها النموذج الأول من السوريين، وباعتباره عميلا للأمريكي وسارقاً للثروات الوطنية، وفق الخطاب الخشبي للنموذج المقابل.
آفاق حل القضية السورية
فيما لو تم طرح سؤال يتعلق بحل جذري للحالة السوية قبل العام 2011، لربما تمحورت الإجابة حول ثورة شاملة تؤدي إلى تغيير البنية الشمولية للنظام وتبديله بنظام ديمقراطي، تعددي، لامركزي، قائم على تداول السلطة وعلى مبدأ فصل السلطات…الخ. والآن وبعد تشرد الملايين حول العالم، وبعد مئات آلاف القتلى والمفقودين والمعتقلين، تتقاسم الجيوش الأجنبية البلاد كمناطق نفوذ، والنظام لا حول له ولا قوة. هذا عدا عن الاحتلال التركي المباشر الذي يسعى إلى خلق أرضية تضمن له الانتقال من سياسة (قضم) المناطق السورية المحتلة إلى (الابتلاع)، بذريعة المنطقة الآمنة حينا، وبذريعة حماية أمنها القومي حينا آخر. وأفضل الحلول التي تلوح في الأفق هوا جبار الجميع على التعايش وفق صيغة الهوية القسرية التي أوصلت البلاد إلى ما هو عليه. وهو حل فيما إذا تحقق بتلك الصيغة القديمة، سيؤدي إلى تأجيل الصراع المحتدم بين الهويات المتعددة لعدة سنوات وربما لعدة عقود، ريثما تستعيد أنفاسها في الظل، إلى أن تتاح لها الفرصة المواتية لرفض الحالة القسرية مرة أخرى، والدخول في صراع دموي جديد. وما من مؤشر يوحي الى الوصول الى حل جذري للقضية السورية، والذي يتجسد أولا في انحسار سلطة المركز لصالح الأطراف، بما يحقق معادلة التكافؤ بين الهويات المختلفة، والتعايش وفق الهوية الاختيارية الجامعة، بعيدا عن الفرض القسري والتمييز.