المقدمة والمنهجية
منذ سيطرة فصائل المعارضة الموالية لتركيا وهيئة تحرير الشام “جبهة النصرة سابقاً” على مناطق من الشمال السوري, بدأت بارتكاب الانتهاكات بحق المدنيين, إذ ارتكبت هذه الفصائل المسلحة جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب بحق سكان مناطق سيطرتها, واعتقلتهم تعسفياً وعذبتهم وارتكبت جرائم قتل خارج نطاق القضاء, كما استولت على ممتلكاتهم وفرضت إتاوات بحقهم, لطالما تبقى هذه الممارسات من دون محاسبة، فبالرغم من استمرار هذه الانتهاكات منذ أكثر من 5 سنوات, إلا أنه لم يردع أي قانون أو قرار دولي أو محلي هؤلاء المسلحين لوقف انتهاكاتهم مما سهل إفلاتهم من العقاب، كما لم يتم محاسبتهم أو تصنيفهم كجهات مُدانة.
ففي عفرين ومناطق أخرى بريف حلب الشمالي وسري كانيه وتل أبيض التي سيطرت عليها الفصائل إبان الاجتياح التركي عام 2018 و2019, ترتكب الفصائل انتهاكات بحق السكان الأصليين لتلك المناطق وانتهكت المعاهــدات والقوانين الدوليــة الخاصــة بحقوق الإنسان, ومارست التمييز العنصري بحقهم, وهجرت أكثر من 700 ألف شخص منهم تعسفياً, ووطنت آخريــن بــدلاً عنهــم، وفــرضت اللغــة التركيــة علــى الطــلاب السـوريين فـي تلـك المناطـق، بالإضافة إلى فـرض التداول بالعملــة التركيــة, كما استهدفت الفصائل بشكل ممنهج سكان المنطقة الكرد والإيزيديين والمسيحين وآخرين من مذاهب أخرى.
بدورها هيئة تحرير الشام “جبهة النصرة سابقاً” المتواجدة بمناطق واسعة في إدلب منذ عام 2014, ساهمت بجعل الاستقرار والحل السياسي في سوريا بعيد الأمد من خلال ارتكابها لانتهاكات بحق السكان واعتقالها المعارضين لها والناشطين ومدنيين من بينهم نساء، انتقدوها، بتهمة التخابر مع جهات خارجية والعمل لصالح جهات معادية, وعرضتهم للتعذيب والتشبيح والتعنيف النفسي والجنسي والجسدي, كما أصدرت أحكام الإعدام بالتزامن مع بسط سيطرتها, وفرضت قوانين وقواعد متطرفة وفق منهج تنظيم “القاعدة” الذي كانت تنتمي له قبل أن تستخدم اسم هيئة تحرير الشام للالتفاف على انتمائها للتنظيم وللتخلص من العقوبات المفروضة عليها واعتبارها كجهة “إرهابية”.
يستند التقرير النصف سنوي الصادر عن قسم الرصد والتوثيق في وكالة نورث برس, على قواعد بيانات القسم التي تم فيها تسجيل وتوثيق الانتهاكات التي ارتكبتها الفصائل وهيئة تحرير الشام بحق المدنيين وبشكل مباشر تم تلقيها من المراسلين الميدانيين, بالإضافة إلى التقارير والأخبار الصادرة عن الوكالة وشهادات من الضحايا وذوييهم ومصادر أمنية وحقوقية.
انتهاكات الفصائل المعارضة الموالية لتركيا
تنتشر الانتهاكات بحق المدنيين بشكل كبير في ريف حلب الشمالي وتل أبيض وسري كانيه، المناطق الواقعة تحت سيطرة فصائل المعارضة الموالية لتركيا.
وسجل قسم الرصد والتوثيق في وكالة نورث برس في النصف الأول من العام الجاري, أبرز الانتهاكات والاعتداءات التي ارتكبتها هذه الفصائل:
وثَّق القسم مقتل 20 شخصاً بينهم2 سيدة، وإصابة 185 آخرين بينهم 11 سيدة و10أطفال، بطرق خارج نطاق القضاء على يد الفصائل, كما تسببت من خلال قصفها على 45 موقعاً في مناطق سيطرة حكومة دمشق بمقتل 4 أشخاص وإصابة 11 آخرين بينهم 2 سيدة.
وأبرز الحوادث خلال النصف الأول من العام كانت في مدينة جندريس بريف عفرين بتاريخ 20 آذار/ مارس، أي ليلة عيد نوروز “رأس السنة الكردية” والذي يحتفل بها الكرد في مدينة عفرين, حيث قتل عناصر من فصيل “جيش الشرقية” بشكل ممنهج وبالرصاص المباشر 5 أشخاص أربعة منهم من عائلة واحدة بالإضافة إلى إصابة طفل, وحدث ذلك بعد رفضهم الخضوع لعناصر الفصيل وإطفاء النار التي أشعلوها أمام منزلهم احتفالاً بقدوم العيد, استمرت الفصائل بإنكار انتماء الجناة لها, إلا أن سكاناً وشهود عيان، شددوا على أن مرتكبي الجريمة هم من “جيش الشرقية”.
وخلال شهر شباط/فبراير، وبعد أن تعرضت أجزاء كبيرة من سوريا للدمار إثر الزلزال المدمر الذي ضرب البلاد في السادس من الشهر، بقوة 7.7 درجة على مقياس ريختر, لم تتوقف الفصائل، رغم تدمر مناطق سيطرتها، عن انتهاكاتها بل حتى أنها وجدتها فرصة لاكتناز الأموال, فاستولت على المساعدات الإغاثية المقدمة للمتضررين من الزلزال وفرضت الضرائب على قوافل المساعدات, وسرقت ممتلكات المدنيين القاطنين في الخيم من منازلهم المتضررة جزئياً, حتى أنها مارست التمييز العنصري أثناء عملية البحث والإنقاذ وتوزيع المساعدات, كما قامت بتفجير منازل السكان بحجة أنها مهددة بالانهيار بشكل عشوائي ودون تنفيذ الدراسات والإجراءات المناسبة, وتعتبر هذه الأفعال انتهاكاً لقوانين حقوق الإنسان والمعاهدات الدولية الخاصة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
بالإضافة لما سبق سجل القسم 131حالة استيلاء للفصائل على ممتلكات المدنيين، بينهم مسنون وسيدات، مارستها بقوة السلاح، و19 حالة سرقة وأيضا فرضها للإتاوات التي بلغت 231 حالة، حيث فرضتها على السكان القاطنين في مناطق سيطرتها بمن فيهم المرحلين من تركيا وعلى اللاجئين والنازحين الذين دخلوا إلى مناطقهم لزيارة ذوييهم, بالإضافة إلى استيلائها وفرضها للإتاوات على المساعدات الإغاثية المرسلة للمتضررين من الزلزال. وسجل القسم استيلاء الفصائل على أكثر من 1000 خيمة مقدمة من المنظمات للناجين من الزلزال بالإضافة إلى أكثر من4 شاحنات مساعدات بالإضافة إلى مئات من حصص المساعدات.
الانتهاكات الثقافية والبيئية
أما بالنسبة للانتهاكات الثقافية والبيئة والتي تعتبر جزءاً من خطة التغيير الديمغرافي التي تتبعها تركيا والفصائل الموالية لها في مناطق سيطرتها, سجل القسم خلال النصف الأول من العام الجاري, قطع 9320 شجرة مثمرة وحرجية معظمها في عفرين, كما أن عدداً من الأشجار تم اقتلاعها من أجل توسيع قاعدة عسكرية تركية في بلدة كلجبرين بريف أعزاز شمال حلب، وأيضاً تسببت الفصائل بحرق 3255 شجرة مثمرة وحرجية و1105 دونمات من محاصيل السكان من القمح والشعير، كما رصد القسم 6 حالات جرف وتنقيب لمواقع أثرية في عفرين بحثاً عن الذهب والآثار.
الاعتقالات
تتورط معظم الفصائل الموالية لتركيا، بعمليات الاعتقال التعسفي والتعذيب، حيث سجل قسم الرصد والتوثيق خلال الستة أشهر الأولى من العام الجاري، اعتقال 496 شخصاً, 404 منهم في ريف حلب الشمالي ومعظمهم في عفرين, 79 في سري كانيه و13 في تل أبيض, بين المعتقلين411 رجلاً، 45 سيدة، 25 طفلاً، 15 عسكري، 169 منهم طالبو لجوء استلمتهم الفصائل من حرس الحدود التركي “الجندرمة”.
أطلقت الفصائل سراح 312 شخصاً منهم الذين استلمتهم من “الجندرمة” وآخرين اعتقلتهم تعسفياً بعد تحصيل مبالغ مالية من ذوييهم وصلت لأكثر من 400 دولار, وأعلى حصيلة للمعتقلين تعسفياً كانت على يد الشرطة العسكرية في المناطق الثلاث التي قامت باعتقال 126 شخصاً تعسفياً من المجموع المذكور، وتستخدم الفصائل بشكل عام تهمة التعامل مع الإدارة الذاتية لاعتقال السكان في مناطقها وتحصيل الأموال منهم, بالإضافة إلى الأشخاص الذين شاركوا في الاحتجاجات وآخرين تم اعتقالهم دون ذكر السبب.
انتهاكات هيئة تحرير الشام
أما هيئة تحرير الشام “جبهة النصرة سابقاً” والتي استولت على جزء كبير من مدينة إدلب وأجزاء من ريف حماة واللاذقية, حولت المنطقة إلى ملاذ آمن لعناصر تنظيم “داعش” وتضيق الخناق بشكل مستمر على السكان في مناطقها, وسجل القسم في النصف الأول من العام الجاري, أبرز الانتهاكات والاعتداءات التي ارتكبتها الهيئة.
إذ تسببت هيئة تحرير الشام بمقتل وإصابة 463 شخصاً بين مدني وعسكري، منهم 275 فقدوا حياتهم بينهم 5 سيدات، و188 أصيبوا، بينهم 1 سيدة، و2 ناشطين إعلاميين، وتتوزع حصيلة الضحايا بين ضحايا القصف العشوائي الذي استهدفت في مناطق حكومة دمشق وبلغ عددهم 364 شخصاً قتل منهم 201 وأصيب 163, وضحايا التعذيب والإعدام والاستهداف المباشر والذين بلغ عددهم 99 شخصاً إذ قتل منهم 74 وأصيب 25.
كما وثق القسم استيلاء الهيئة من خلال “لجنة الغنائم” التابعة لها، على 18 منزلاً ومحلاً تجارياً في إدلب، بالإضافة إلى 450 دونماً من الأراضي الزراعية, كما استولت الهيئة على 34 شاحنة مساعدات أممية مقدمة لمتضرري الزلزال, واستولت على 7 مراكز إيواء كانت قد أنشأتها فرق ومنظمات إنسانية لمتضرري الزلزال.
الإعدامات
وثق قسم الرصد والتوثيق 24 حالة إعدام في إدلب نفذتها هيئة تحرير الشام عبر أجهزتها الأمنية خلال النصف الأول من العام, بينهم على الأقل 3 سيدات, وأعدم هؤلاء الأشخاص بعد أن تم اعتقالهم وإخفائهم قسراً دون ذكر أسباب اعتقالهم أو الجهة التي تم تحويلهم إليها, كما لم يسمحوا لعائلاتهم بمقابلتهم أو بتعين محامٍ لهم، وتعد هذه الحادثة واحدة من مئات الإعدامات التي نفذتها هيئة تحرير الشام في مناطق سيطرتها.
حادثة الإعدامات واحدة من أبرز انتهاكات هيئة تحرير الشام بحق سكان إدلب والمناطق الأخرى التي تسيطر عليها، حيث أنها تنفذ عمليات الإعدام بأساليب خارج نطاق القضاء بحق الشبان والسيدات، دون أي حكم من المحكمة، وإنما بقرار من “أبو ماريا القحطاني” مسؤول الأمن في الهيئة وزعيم الهيئة أبو محمد الجولاني ومجلس شورته هم المسؤولون عن اصدار هذه الأحكام.
الأساليب التي تستخدمها الهيئة في إعداماتها، بحسب مصدر أمني لنورث برس، إما رجماً بالحجارة أو رمياً بالرصاص أو نحراً بالسكين، وذلك تبعاً لطبيعة التهمة، كما أشار المصدر أن الإعدامات تطال تهماً متعلقة بالعمالة للتحالف الدولي أو حكومة دمشق أو قوات سوريا الديمقراطية إضافة لسب الذات الإلهية أو الزنا، وغالباً ما تكون التهم ملفقة ويعتقل الجهاز الأمني للهيئة هؤلاء الأشخاص بسبب انتقادهم للسلطات أو معارضتها.
الاعتقالات
لايزال مشهد الاعتقالات والإخفاء القسري واحداً من أبرز مشاهد الحرب السورية المستمرة منذ 12 عاماً, فخلال الست أشهر الأولى من العام الجاري، بلغ عدد الاشخاص الذين تم اعتقالهم بشكل تعسفي على يد هيئة تحرير الشام 630 شخصاً، بينهم 62 سيدة و21 طفلاً و4 ناشطين إعلاميين، كما أن 20 شخصاً من الذين تم اعتقالهم هم من جنسيات غير سورية بالإضافة إلى اعتقالها لـ 19 من عناصر الفصائل الموالية لتركيا.
معظمهم من المعارضين لها، بتهم متعلقة بالعمالة للتحالف الدولي أو حكومة دمشق أو قوات سوريا الديمقراطية، وتعتقلهم بحجة التحريض وإثارة الفتن بحسب وصفها، وعلى عكس فصائل المعارضة الموالية لتركيا والتي تسعى في اعتقالاتها لتحصيل الأموال ومن ثم الإفراج عن المعتقلين. يواجه المعتقلون في سجون هيئة تحرير الشام مصيراً مجهولاً يفضي بهم إلى القتل تحت التعذيب أو الإعدام, واعتراضاً على حملات الاعتقالات التي تنفذها الهيئة تشهد مناطق سيطرتها بشكل مستمر احتجاجات لذوي المعتقلين تطالب بالكشف عن مصيرهم وإطلاق سراحهم, مما يدفع الأجهزة الأمنية فيها لاعتقال المزيد من الأشخاص.
إن استمرار هذه الانتهاكات على يد أطراف النزاع المختلفة يعرض أرواح السوريين للخطر, حيث أن حقوق السوريين الإنسانية هي حقوق عالمية ولا يجب أن تتعرض للانتهاك أو الإهمال أو أن يفلت منتهكوها من العقاب, لذا على المجتمع الدولي والأطراف المعنية بذل كل الجهود الممكنة لإنهاء الصراع في سوريا وإيقاف الانتهاكات التي تجرد السوريين من حقوقهم والعمل مع السلطات المحلية للحد من الاعتقالات والإخفاء القسري المستمر في كافة الجغرافية السورية.