المقدمة والمنهجية
لم تتوقف تركيا عن ارتكاب الانتهاكات الممنهجة واسعة النطاق بحق السوريين منذ أكثر من خمس سنوات, والتي بدأت منذ اجتياحها لمنطقة عفرين عام 2018 بعملية عسكرية وبعدها مدينتي سري كانيه وتل أبيض عام 2019, وسهلت دخول فصائل المعارضة السورية لهذه المناطق التي بدورها انتهكت أيضاً حقوق السكان في تلك المناطق بدءاً من حقهم في الحياة. تركيا مسؤولة عن الانتهاكات التي ترتكبها قواتها في سوريا من قتلٍ واعتقال واعتداء على طالبي اللجوء على الحدود السورية التركية, وعبر قصفها غير المشروع للشمال السوري, بالإضافة إلى مسؤوليتها عن الانتهاكات التي ترتكبها فصائل المعارضة الموالية لها كونها هي الطرف الداعم والممول لها والمسيطر على المنطقة.
لطالما أشارت السلطات التركية أنها تحارب “الإرهاب” في سوريا وبررت بذلك، قصفها غير المشروع على الأعيان المدنية والبنى التحتية واحتلالها للمناطق وتهجير سكانها الأصليين وإحداث تغيير ديمغرافي في المناطق الثلاث, عوضاً عن اعتقالها التعسفي والتمييزي للسكان، القائم على أساس انتماءاتهم السياسية والقومية والدينية والعرقية, ونقلت بشكل غير مشروع المعتقلين في سجون المعارضة لأراضيها دون معرفة مصيرهم لاحقاً, كما تهاونت مع انتهاكات حقوق الإنسان التي تركبها الفصائل وسهلت الإفلات من العقاب.
حقوق سكان عفرين وسري كانيه وتل أبيض الأصليين الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والمدنية والسياسية, انتهكت خلال الخمس سنوات بشكل واضح وصريح في ظل تغاضٍ من المجتمع الدولي وغياب المسائلة, ولا سيما في حالات الطوارئ والاستثنائية مثل ظروف الزلزال.
يستند التقرير النصف سنوي الصادر عن قسم الرصد والتوثيق في وكالة نورث برس, على قواعد بيانات القسم، التي تم فيها تسجيل وتوثيق الانتهاكات التي ارتكبتها القوات التركية بحق السوريين وعلى الأرض السورية، وبشكل مباشر من المراسلين الميدانيين, بالإضافة إلى التقارير والأخبار الصادرة عن الوكالة وشهادات من ضحايا وذوييهم ومصادر أمنية وحقوقية.
ويعرض التقرير الانتهاكات التركية التي ترتكب داخل حدود البلاد, بما فيها القتل المتعمد خارج نطاق القضاء والاعتداءات المباشرة على طالبي اللجوء, واعتقالاتها ونقلها للمعتقلين إلى أراضيها, بالإضافة إلى قصفها غير المشروع على الشمال السوري, وانتهاكاتها الممنهجة للحقوق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للسوريين كبناء المستوطنات وقطع المياه.
الاستخدام المفرط للقوة ضد طالبي اللجوء
انتهاكات الجيش التركي بحق السوريين ليست جديدة، فهي موجودة قبل بدء الحرب في سوريا, إلا أن الوضع تفاقم بعدها بالتزامن مع بدء موجة اللجوء غير الشرعي باتجاه تركيا بعد عام 2011, حيث مارس عناصر حرس الحدود التركي “الجندرمة” القوة المفرطة ضد طالبي اللجوء واستهدفهم بالرصاص بشكل مباشر, كما اعتدى عليهم وعذبهم في الكثير من الأحيان واعتقلهم في ظروفٍ لا إنسانية.
بلغت حصيلة ضحايا طالبي اللجوء السوريين في النصف الأول من العام الجاري, 452 شخصاً بينهم 20 طفل و26 سيدة, قضى منهم 25 شخصاً وأصيب 121 آخرون، خلال الاستهداف المباشر بالرصاص الحي, كما أصيب 306 أشخاص من خلال اعتداء “الجندرمة” عليهم بالضرب واستخدام القوة المفرطة في محاولة منهم لمنعهم عبور الحدود السورية التركية.
كما اعتقلت “الجندرمة” 242 شخصاً بعد إبقاء معظمهم لأيام معدودة، ثم إعادتهم إلى سوريا ليتعرضوا مجدداً للاعتقال والاعتداء والابتزاز المادي ثم يفرج عنهم مقابل مبلغ مادي يبدأ من 200 ليرة تركي.
وخلال الأشهر الستة الأولى من عام 2023, شهدت العديد من المدن الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة، احتجاجات ولعدة مرات تحت عنوان “أوقفوا انتهاكات الجندرمة” وذلك عقب حوادث قتل واعتداء لعناصر حرس الحدود التركي على شبان وأطفال من تلك المناطق أثناء محاولتهم عبور الحدود.
لتركيا الحق في ضبط وحماية حدودها مع سوريا، لكن ما تقوم به من انتهاكات بحق طالبي اللجوء يعتبر انتهاكاً للقانون الدولي وقوانين حقوق الإنسان واتفاقية الأمم المتحدة للاجئين واتفاقية مناهضة التعذيب وغيرها من المعاهدات والمواثيق, التي تحظر رد الدول لطالبي اللجوء على حدودها عندما يعرضهم ذلك للخطر, والتي تفرض بدورها عليها احترام المعايير الدولية بشأن استخدام القوة المميتة اتجاههم وكذلك احترام حقهم في الحياة والسلامة الجسدية وعدم تعريض أي شخص للمعاملة اللاإنسانية والمهينة.
القصف غير المشروع
بعد اجتياح تركيا لعفرين وسري كانيه وتل أبيض, استمرت بالتهديد باجتياحٍ جديد لمناطق شمال شرقي سوريا واحتلال مدن أخرى بعمليات عسكرية, لكنها جوبهت برفض دولي, لذا لجأت إلى إدارة عمليتها العسكرية من خارج الحدود, وذلك من خلال قصفها العشوائي غير المشروع للمناطق الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية وحكومة دمشق بالأسلحة الثقيلة والطائرات المسيرة, بحجة مكافحة “الإرهاب”، واستهداف مواقع عسكرية, لكن القسم، رصد خلال النصف الأول من العام بالاعتماد على قواعد بيانته، أن نسبة الضحايا المدنيين في القصف التركي بلغت أكثر من 30% من إجمالي ضحايا القصف.
واستهدفت تركيا خلال النصف الأول من العام الجاري, 257 موقعاً بـ 1160 ضربة، 37 منها كانت عبر طائرات مسيرة, 141 من المواقع هي مواقع سكنية. وتوزعت حصيلة القصف على بعض المدن وأريافها, حيث استهدف 124 موقعاً بريف حلب الشمالي بـ 979 ضربة, بينما استهدفت 89 موقعاً في مدينة الرقة وريفها بـ 108 ضربات, و17 موقعاً في الحسكة وريفها بـ 28 ضربة، أما في القامشلي استهدفت 9 مواقع بـ 10 ضربات, كما قصفت 10 مواقع في مدينة كوباني بـ18 ضربة وفي منبج 8 مواقع بـ 17 ضربات.
خلف القصف على هذه المدن ضحايا مدنيين وعسكريين بلغ عددهم, 122 شخصاً 74 منهم قتلوا بينما أصيب 48, حيث بلغ عدد الضحايا المدنيين 15 قتيلاً بينهم 5 سيدات وطفل, و25 مصاباً بينهم 1 سيدة و4 أطفال, أما الضحايا العسكريين فقضى من عناصر قوات سوريا الديمقراطية 27، وأصيب 8، بينما من القوات الحكومية قضى 31، وأصيب 12، بالإضافة إلى مقتل 1 عنصر من القوات الروسية وإصابة 3 آخرين.
إن استهداف تركيا للمدنيين من خلال استخدامها للقوة والقصف العشوائي ضدهم وضد ممتلكاتهم المدنية انتهاك واضح وصريح للقانون الدولي الإنساني واتفاقية جنيف الرابعة وقواعد العرف الدولي, التي تحظر الاعتداء على المدنيين والأعيان المدنية والقصف العشوائي للمدن والقرى, وتنص على ضرورة حماية المدنيين وتحظر الاعتداء على حقوقهم الأساسية بما فيها حق الحياة.
الاعتقالات
في النصف الأول من العام الجاري, اعتقلت القوات التركية من خلال عناصرها في الاستخبارات و”الجندرمة”, 305 أشخاص سوريين من داخل مناطق سيطرة فصائل المعارضة أو على الحدود السورية التركية، كما نقلت معتقلين بطرق غير شرعية من سجون الفصائل إلى معتقلات في تركيا, بالإضافة إلى أن القوات التركية نقلت عدداً من الأجانب في سجون هيئة تحرير الشام إلى تركيا دون أن يعرف مصيرهم.
وبلغ عدد الأشخاص الذين اعتقلتهم “الجندرمة” من طالبي اللجوء 242 شخصاً، منهم 15 سيدة و21 طفلاً, معظمهم تعرض للتعذيب والضرب، وتم احتجازهم لأيام في تركيا, ليتم ترحيلهم إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة ليواجهوا مرة أخرى تعذيباً وتعنيفاً واحتجازاً تعسفياً ويتم إطلاق سراحهم بعد دفع مبالغ مالية تبدأ من 200 ليرة تركي.
أما الاستخبارات التركية، اعتقلت 72 شخصاً، 2 منهم اعتقلتهم بشكل تعسفي في عفرين, أما الـ 70 الآخرين وبينهم سيدة، نقلتهم من سجون الفصائل وهيئة تحرير الشام إلى الأراضي التركية, دون أن يعرف مصيرهم أو الجهة التي تم نقلهم إليها بينهم ثلاثة أشخاص من جنسيات غير سورية، أحدهم فرنسي والآخران مصري وسعودي. وتعتبر عملية النقل انتهاكاً للقانون الدولي الإنساني والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان, والتي تنص على أن نقل المعتقلين من دولة إلى أخرى، حيث من الممكن أن يتعرضوا للتعذيب أو المعاملة غير الإنسانية أو المهينة، أمر محظور.
قطع المياه
منذ كانون الثاني/يناير 2019 تحبس تركيا حصة سوريا من مياه نهرة الفرات, كما تستخدم النهر كسلاح حرب وورقة ضغط على الإدارة الذاتية, لكن أكثر المتضررين هم مدنيون وعلى وجه الخصوص المزارعون, لأن انخفاض مستوى نهر الفرات وجفاف بعض أفرعه, ساهم بتدهور الإنتاجية الزراعية وخاصة بعد أن تم منع المزارعين من ري المحاصيل بمياه النهر لانخفاض منسوبه وبسبب انتشار الكوليرا, كما أن الجفاف الحاصل في المنطقة أثر على الاقتصاد السوري وعلى غذاء السوريين بشكل مباشر, وتسبب ذلك برفع أسعار الخضروات والخبز في جميع المناطق السورية, أي أن تركيا ارتكبت انتهاكاً صارخاً آخر لحقوق الإنسان، وهو حرمان السوريين من حقهم في المياه الآمنة والتأثير على أمنهم الغذائي.
حبس مياه الفرات، ليس الانتهاك الوحيد للحكومة التركية, فهي مسؤولة أيضاً عن فصائل المعارضة المتواجدة في سري كانيه والتي تعمل بشكل ممنهج على قطع المياه الواردة من محطة علوك، التي تقع في مناطق سيطرتهم في سري كانيه عام 2019. وبحسب عيسى يونس الرئيس المشارك للمديرية العامة لمياه الشرب في الحسكة، “قطعت تركيا باستخدامها للفصائل أكثر من 40 مرة المياه عن محطة علوك المغذية لمدينة الحسكة وريفها والتي يقطن فيها نحو مليون شخص بينهم نازحون”.
وبحسب الأمم المتحدة، تأثرت 54 محطة مياه من أصل 73 محطة على طول الضفة الغربية لنهر الفرات بشكل كبير أو شديد من انخفاض منسوب المياه بشكل خطير, وأثر ذلك على مياه الشرب المتوفرة في محافظات الحسكة والرقة ودير الزور وحلب.
وساهم انخفاض منسوب نهر الفرات بحدوث أزمة صحية, وتسبب بانتشار الأمراض والأوبئة كالكوليرا والتهاب الكبد الوبائي وحمى التيفوئيد, وازداد عدد حالات الوفاة بهذه الأمراض منذ جفاف النهر وأفرعه.
وفي عفرين، فتحت السلطات التركية عام 2020 بوابات تصريف في سد بحيرة ميدانكي في عفرين الخاضعة لسيطرة الفصائل, لاستجرار المياه إلى سد الريحانية في ولاية هاتاي التركية واستجرّت إلى الآن أكثر من 50% من مخزون البحيرة.
تعتبر تركيا المسؤولة عن أزمة المياه في شمال شرقي سوريا ونقص المياه في بحيرة ميدانكي, وهذه الممارسات القائمة على أساس تميزي هي انتهاك للحقوق الثقافية والاقتصادية والاجتماعية لسكان هذه المناطق كما أنها تمس حق الحياة لهم, كون أن الأشخاص في هذه المناطق محرومين من حقهم في المياه الآمنة والنظيفة.
وعليها أن تكف عن حبس المياه وقطعها ونقلها, وأن تعمل بموجب التعليق العام رقم 15 المتعلق بالحق في المياه, وضمان حصول الأشخاص على الحد الأدنى من المياه على أساس غير تمييزي, كما أن العهد الدولي الخاص بالحقوق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، الذي يفرض بوضوح أنه واجباً على كل دولة طرف، باتخاذ ما قد يلزم من خطوات لضمان تمتع كل فرد بالحق في الماء، بأقرب وقت ممكن. وينبغي ألا يتعارض أي تدبير وطني يستهدف إلى إعمال الحق في الماء مع التمتع بحقوق الإنسان الأخرى.
بناء المستوطنات
بعد دخول فصائل المعارضة الموالية لتركيا إلى عفرين وريف حلب الشمالي عام 2018 والتي تسببت بنزوح نحو 350 ألف شخص من سكان المنطقة, بدأت بتنفيذ خطتها لإحداث تغيير ديمغرافي في المنطقة, من خلال إنشاء مستوطنات للفصائل وعائلاتهم وللاجئين الذين ترحلهم قسراً على أراضي السكان الكرد الأصليين, وتشارك في هذه العملية العديد من البلدان مثل فلسطين وقطر والسعودية والكويت من خلال منظمات وجمعيات تعمل على تمويل الجمعيات المحلية العاملة في المنطقة والتي ترعى بناء هذه المستوطنات.
ومنذ ذاك الوقت بنت تركيا بحسب ما رصده القسم، 112 مستوطنة, ففي النصف الأول من العام فقط وباستغلالها لظروف الزلزال، دعمت تركيا بناء 11 مستوطنة 10 في عفرين وريفها وواحدة قرب مدينة أعزاز مكونة من أكثر من 2500 شقة.
وتستخدم تركيا المنظمات المحلية وفصائل المعارضة لتنفيذ عملية التغيير الديموغرافي والتخلص من اللاجئين السوريين في أراضيها عبر توطينهم في هذه المستوطنات التي يرفع فوقها العلم التركي.
ويعتبر بناء المستوطنات، مخالفة للقانون الدولي الإنساني الذي يمنع بناءها في الأراضي المحتلة, كما تحظرها اتفاقية جنيف الرابعة والتي تمنع نقل السكان وتفرض حمايتهم من التهجير القسري والتغيير الديموغرافي الذي يعتبر جريمة ضد الإنسانية كونها عملية ممنهجة واسعة النطاق.