انفصاليون لا محالة!

عند المسكونين بهاجس الوحدة الترابيّة لدولهم، تصبح الدعوات للمساواة والاعتراف بالوجود الإثني للجماعات القومية أو الثقافية استبطاناً للانفصال، على ما تقوله أحوال بلادنا أيضاً. ورغم ما تبديه الأقليات من تطمينات بأن نيل حقوقها لن يكون مدخلاً للانفصال، تبقى الشكوك متصلة بكل ما يمت لخطاب المساواة هذا، فيما المفارقة هي أن الأكثريات في منطقتنا تبحث عن الطمأنة من الأقليات المضطهدة، إن لم نقل المستعبدة.

شيء من ذلك “التطمين” يتكرّر في أي وثيقة بين أي حزب أو جسم سياسي كردي، وطرف في المعارضة السورية، إذ تحضر كلمات “وحدة البلاد” بشكل متكرر، ما يكشف عن حالة شك مزمنة، وربّما مرضيّة، تعصف بأطراف المعارضة الراغبة، أو المضطرة، للعمل مع أحزاب قومية كردية. في الواقع، ما من داعٍ حقيقي لذكر هذه العبارة في غير هذا السياق طالما أنها  تغيب حال تفاهم طرفين سياسيين سوريين لا يكون أحدهما كردياً.

لعل المصدر التاريخيّ الأوّل لتهمة الانفصال التي طالت الكرد قد بدأت، وللمفارقة، مع كرديّ ألمح إلى جنوح كرديّ لتأسيس دولة كردستان في جزء من الأراضي التي أصبح اسمها سوريا، ففي عام 1931 يحذّر المفتّش الحكومي محمد كرد علي من  أن الكرد سيؤلفون “دولتهم”، وأن الأيام “كفيلة بأن تنيلهم مطالبهم”، رغم أن المجتمع الكردي ببنيته الريفية في تلك الحقبة كان يخلو من أيّ نزعة قوميّة واضحة. ملاحظة كرد علي، التي لمّحت لانفصال قادم قد يتعرّض له الكيان السوري المُحدث، استصحبت اقتراحاً بأن يتم إبعاد الكرد إلى حيث “أملاك الدولة في أرجاء حمص وحلب”. ولئن كان تموضع الكرد السوريين التاريخي بالقرب من المجال القومي الكردستاني في العراق وتركيا، فإن هذا التموضع حال دون دفعهم لتهم الانفصال كما في الحالة الكاشفة التي أوردها الكاتب الكردي محمد جزّاع على لسان حمزة نويران أحد مؤسسي الحزب الكردي الأول 1957 في سوريا، ففي مقترح للمثقّف والسياسي الكردي نور الدين زازا في خمسينيات القرن الماضي على أكرم الحوراني، اقترح زازا أن يصار إلى تشكيل إطار سياسيّ سوريّ جامع شبيهٍ بالمؤتمر الوطني الهندي، يضم الكرد والعرب وبقية أطياف المجتمع السوري في إهاب سياسيّ جامع، غير أن الفكرة التي راقت للحوراني اعترضتها مسألة الوجود الطرفيّ الكردي في سوريا، إذ سيعلل السياسيّ السوري صعوبة الوصول إلى هكذا صيغة جامعة بتموضع الكرد في منطقة تماس مع كرد العراق وتركيا ما يجعل من تثبيت انتمائهم الوطني أمراً صعباً، ولو أن الكرد كانوا من سكان حمص وحماه لكان الأمر يسيراً وممكناً.

تموضع الكرد في المناطق الشمالية، والشمالية الشرقية، عزّز من شبهة الانفصال. غير أن أسوأ ما في الأمر هي الصورة النمطية التي رسمت عن الكرد وتفسير جهودهم القومية على أنها مقدّمة لانفصال لا محالة.

وإذا كان خطاب السلطة منذ الستينيات، مع وصول أصحاب رؤى شوفينية إلى سدّة الحكم، قد ساهم في تعزيز سردية الخطر الكردي و”الانفصال”، خاصة مع صدور كرّاس رجل المخابرات محمد طلب هلال (دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية الجتماعية السياسية) وما استتبعه من تنامي الهواجس الأمنية، إلّا أن هذا الخطاب تراجع نسبياً لفترة طويلة إلى أن أحياه النظام للتصدي للانتفاضة الكردية في آذار/مارس 2004، ذلك أن الحاجة إلى استقطاب جزء من الشارع العربي في محافظة الحسكة استلزم استعادة أهروجة الانفصال. وبطبيعة الحال، سيستعيد النظام منذ العام 2014 هذا الخطاب في إعلامه “الرسميّ” للتشكيك بالإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.

لم تعد تهمة الانفصال حكراً على النظام السوري، إذ سيكون لروسيا رأي في هذه القصّة أيضاً؛ فموسكو التي كانت تميل بدايةَ الإعلان عن الإدارة الذاتية إلى الحديث عن “الحكم الذاتي الثقافي” في مسوّدة الدستور السوري الذي وضعه خبراء روس، تراجعت عن هذا الميل ليبلغ خطابها الحاد تجاه الإدارة الذاتية إلى مستوى اتهم فيه وزير خارجيتها سيرغي لافروف غير مرّة الولايات المتحدة بالسعي لإقامة دولة في الشمال الشرقي، وإذا كانت موسكو تدرك تماماً أن لا ميل كرديّ للانفصال، ولا إمكان لذلك أصلاً، فإنها تذهب إلى  مثل هذا الخطاب لأجل أن تشدّ من عصب أنقرة التي تروّج بدورها لهذا الخطاب، والذي وضعته في فم معارضين سوريين تابعين لها يكررون ذات النغمة، وإن بتجويد مبتذل في كثير الأحيان.

واقعياً لا يوجد في أدبيات الأحزاب الكردية أي إشارة للانفصال أو حتى إلى مبدأ حق تقرير المصير، بل على العكس، تصرّ معظمها على وحدة البلاد مع ربط هذه الوحدة بصيغة اتحادية (حكم ذاتي)، لكن اللافت أن الأحزاب التي كانت، أو كان محازبوها، يذهبون إلى حق الكرد في تقرير مصيرهم، باتوا الأشد تمسّكاً بالوحدة الترابية والأكثر تأكيداً على “وحدة البلاد” في أي اتفاق أو شراكة مع جهة كردية أو تحالف ينضوي فيه الكرد، مع أن أكثر جهة يتوجب توجيه التأكيد على وحدة البلاد إليها هم أولئك الذين فصلوا عملياً أجزاءً من سوريا وألحقوها بتركيا سياسياً وحتى إدارياً.

يبقى أن كرد سوريا حضروا كانفصاليين سواء عبر الاتهامات التي طاولتهم، أم من خلال الإقرارات غير المبررة في وثائق المعارضة التي ما فتئت تذكر “وحدة البلاد” بإلحاح مفتعل، وفي كلا الحالتين ثمة من يرى كرد سوريا انفصاليين لا محالة مهما بلغ إقرارهم بوحدة سوريا.