لعل الدور الأكثر قيمة الذي يُتوقع من الاتحاد الأوروبي أن يلعبه هو “دور الموفّق” أثناء محادثات السلام بين الأطراف السورية في قادم الوقت، وغير البعيد على ما يبدو. ولتحقيق هذا الهدف الرئيسي (دور الموّفق)، عمل الاتحاد الأوروبي بطريقة لم يقطع بها التواصل مع أطراف النزاع السوري بشكل كامل، وسمحت له بالتواصل والتفاوض مع جميع الأطراف المعنية بمعية الأمم المتحدة وأجهزتها، وإلى جانب الأمم المتحدة، من المتوقع، أن يكون الاتحاد الأوروبي بصفته جهةً موثوقة ولها قبول من الجميع، الجهة المرشحة الأبرز لمراقبة المرحلة القادمة والشكل الجديد للحكومة التي سيتم إنشاؤها في سوريا، هذا إذا حدث ذلك بناء على تغيرات الملف السوري الأخيرة بما فيها التطبيع مع دمشق الذي كان حاضراً كثيراً في بروكسل.
بشكل رسمي أعلن عن مشاركة مجتمع المثليين السوري (مجتمع الميم) ممثلاً في منظمة حقوقية سوريّة في أعمال مؤتمر بروكسل السابع الذي انطلق منتصف حزيران الفائت، مشاركة مجتمع الميم لم تلق ترحيباً خارج نطاق المشاركين في مؤتمر بروكسل، وخاصة قوى المعارضة في إدلب وغرب حلب ممثّلة في بعض الجهات المدنية التي اعتبرت أن “المجتمع الدولي يعمل على إدخال تلك الجهات إلى المجتمع السوري تمهيداً لخطوات قادمة يجري العمل عليها منذ سنوات، وستقابل بالرفض من قبل كافة أطياف الشعب السوري”. وبالمثل فإن مشاركة “الهلال الأحمر السوري” المحسوب على دمشق، لم تلق كذلك ترحيباً من جهات المعارضة في إدلب، وغياب المشاركة الكردية لم يثر انزعاج أحد، وتوضح هذه الصورة استمرار التجاذبات السورية نفسها، وعجز الجماعات السورية حتى الآن على التوافق بين بعضها على نقطة انطلاق في حوارها حتى في الشأن الإنساني، ذلك أن الاصطفاف السوري والإقليمي مازال حاضراً وراء المحاولات الأوروبية الخجولة للتدخل في المسألة السورية.
عادة ما تجد الدول الأوربية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، نفسها محصورة ضمن المدار الروسي -الأميركي، حيث لا يمكنها القيام بأي فعل خارج مجال تديره واشنطن وموسكو، فهذه الدول تفتقر إلى قوة عسكرية ذات تأثير ووزن لتكون “صانعة ألعاب” رئيسية حول العالم، وهذا ما يجعل الدور الأوروبي يظهر دائماً كخلفية للدور الأميركي الرئيسي في مختلف مناطق العالم بالتزامن مع ضعف الرغبة السياسية والعسكرية للمشاركة بشكل أكبر في صراعات العالم، وإن حدث ذلك فمن باب ثانوي لا يعطيه دوراً في تقرير اتجاه الأحداث. يتضح ذلك بوضوح في الموقف الأوروبي من الغزو الروسي لأوكرانيا الناتج (إلى جوار أسباب أخرى) عن رغبة واشنطن بتوسيع حلف الناتو كي يحيط بالدولة الروسية، وهو الأمر الذي لم تتجرأ أوروبا على الاعتراض عليه رغم علمها في تسببه بكثير من المشاكل لها.
ربما لهذه الأسباب وغيرها، نفهم أنّ مؤتمر بروكسل السوري انصب في دوراته السابقة كلها على “حشد توفير استجابة فعالة للوضع الراهن في سوريا، لمواصلة دعم الجهود التي تبذلها الأمم المتحدة بهدف إيجاد حل سياسي شامل الصراع السوري وحشد الدعم المالي اللازم لتلبية احتياجات اللاجئين السوريين والمجتمعات المضيفة لهم في دول الجوار” وفق تصريح لجوزيب بوريل، الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية للاتحاد، ومعنى ذلك بوضوح أنّ الدور السياسي الذي تضطلع به الدول الأوروبية لمساعدة أو مواجهة الولايات المتحدة وروسيا في صياغة وتنفيذ سياساتهما في سوريا، محدودٌ، ومن الأكيد أنّ أوروبا سوف تقبل بصيغة قرار تتفق عليه القوى العظمى طالما أنه يحقق الاستقرار في سوريا، والأهم أن توقّف الحرب يعني توقف تدفق المهاجرين إليها، وهو هاجس أوروبا الأكبر في ظل تصاعد التيارات اليمينية المعادية للمهاجرين.
من الصحيح أن مؤتمر بروكسل، وهو مؤتمر التعهدات الرئيسي لسوريا ودول الجوار التي يوجد فيها سوريين، نجح مرة جديدة في حشد “وعود” المساعدات للسوريين داخل وجوار البلاد عبر “التزامات دولية” التي بلغ مجموعها 5.6 مليار يورو للعام 2023 و2024، ولكن هذه الوعود تبقى وعوداً ولا يتم الالتزام بأغلبها، وهو ما ظهر واضحاً في نتائج النسخة السابقة حيث لم تتجاوز عمليات التمويل للاستجابة الإنسانية أكثر من 11% فقط. لكن المهم هنا أنّ هدف الاتحاد الأوروبي في توجيه المجتمع الدولي نحو إثارة الانتباه من جديد إلى الواقع السوري، في ظل الوضع العالمي الحالي المتوتر على كل الصعد، قد نجح جزئياً.
قد يكون واحد من أسباب فشل تحويل “الالتزامات الدولية” إلى وقائع أنّ موقف الاتحاد الأوروبي السياسي، بشأن دمشق والأطراف السورية الأخرى، يفتقر إلى الوسائل اللازمة لاتخاذ موقف ملزم وقوي قادر على الضغط لدفع هذه الالتزامات وتحويلها واقعاً، ولعل أكبر المعوقات هنا، التي تمنع دفع مسارات التسوية التي انطلقت من جنيف هو توسع الدور الروسي النقيض من الموقف الأوروبي وحضوره في كل المفاصل السورية، وهذا ربما يفسر التوجّه الأوروبي نحو تقديم مساعدات إنسانية للسوريين في أجزاء من سوريا وجوارها، بلغت قرابة 30 مليار يورو منذ العام 2011 حسب تصريحات رسمية، باعتبارها، أي المساعدات، شكلاً من أشكال الرغبة الأوروبية في البقاء حاضرةً ولو في موقع الظل.
ضمن سياق المؤتمر وفي جلساته، تعرّض الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه إلى انتقادات جديدة لعدم مشاركتهم بشكل أكبر في الشأن السوري وضعف العقوبات التي فرضت على دمشق، ولكن بالأصل كانت علاقة دمشق بالاتحاد متواضعة (لا يتجاوز حجم التجارة بينهما 1%) أي أنّ كثيراً من هذه الانتقادات في غير محلها، ويجب التذكير دائماً بحضور القطبين الروسي والأميركي في مساحة الشرق الأوسط.
بناءً على ما سبق، يمكننا القول إنّ قبول أوروبا حتى الآن بهذا الدور في المسألة السورية، ناتج عن رؤية عقلانية إلى حد كبير تتجاوز التجاذبات السورية التي سوف تختفي يوماً ما بتوافق إقليمي ودولي، ككل التجاذبات التي شهدتها نزاعات سابقة، وهو ما سمح للاتحاد بالمحافظة على موقف “مقبول” يجعل من الممكن تبني دوره عندما يحين موعد التفاوض على تسوية وتنفيذها، يمكن التأكد من ذلك عبر ملاحظة أنّ الاتحاد لعب دوراً مقبولاً على مختلف جهات الصراع وقتما ضرب زلزال السادس من شباط /فبراير الفائت سوريا، إذ سيّر الاتحاد معونات إغاثية لدمشق وإدلب وحلب ومناطق أخرى عبر ميناء بيروت.
أخيراً، وبينما تمتنع الدول الأوروبية عن التورط عسكرياً في النزاع السوري وتنتظر توصل الأطراف المتصارعة للوصول إلى تسوية عبر صفقة دولية، فإنّ الأوروبيين يبذلون جهوداً لتوجيه مسارات التسوية المحتملة بما يخدم أولوياتهم وبما يزكّي الصورة العمومية لأوروبا كقارة أتعبتها الحروب ولا ترغب بتكرارها، ومن خلال علاقاتها مع الولايات المتحدة وروسيا ودول المنطقة الأخرى فإنّ أوروبا تنتظر وقتها، وتستثمر أصولها في مستقبل سوريا بهدوء وذكاء.