شهد مسار أستانا الذي تأسس مطلع عام 2017، تحولات ومراحل كثيرة، كان الهدف منه في البداية ترتيب الوضع الأمني في شمال سوريا عقب استعادة النظام السيطرة على مدينة حلب، لكن الدول المعنية سرعان ما أطلقت عليه صيغة عملية سياسية عندما طرحته بديلاً عن صيغة مسار جنيف، لاسيما القرار الدولي 2254، قبل أن يتحول لاحقاً إلى مسار أمني بين موسكو وأنقرة على شكل عقد صفقات وتفاهمات بشأن شمال شرقي سوريا، ليتحول في محطته الأخيرة إلى مسار للتطبيع بين دمشق وأنقرة برعاية روسية ومشاركة إيرانية! خلال هذه السنوات شهدت أستانا 20 جولة مفاوضات بين الأطراف المعنية، في جميع هذه الجولات كان هدف الأطراف المعنية مصالحها وأجنداتها أولاً وأخيراً، وعليه لم يشهد مسار أستانا خطوة واحدة على طريق إيجاد حل سياسي للأزمة السورية.
الاجتماع العشرون لأستانا جاء على وقع تطورات مهمة، لعل أهمها: أنه جاء على وقع تقارب الدول العربية مع النظام السوري بعد إعادة سوريا إلى جامعة الدول العربية، ومحاولة طرح مشروع عربي لحل الأزمة السورية، حل يتمحور حول صيغة خطوة مقابل خطوة، خاصة بعد تبني الأمم المتحدة لها، بعد أن كانت مجرد مبادرة أردنية.
وأنه الأول بعد فوز الرئيس أردوغان في الانتخابات بولاية رئاسية ثالثة على وقع تحول الملف السوري إلى محدد لسياسة تركيا في الداخل والخارج، وإذا كان إردوغان قد سعى قبل الانتخابات إلى استثمار التقارب مع الأسد لصرفه في الانتخابات، فإن ثمة مؤشرات توحي بأن حساباته اختلفت بعد الانتخابات، وباتت تتجه نحو البحث عن نفوذ دائم، وسياقات أمنية محددة، وامتيازات كبيرة في الشمال السوري قبل أي تطبيع مع دمشق.
كما أنه الأول بعد ضم إيران إلى جهود التطبيع الجارية بين دمشق وأنقرة برعاية روسية، في مؤشر يدل على عمق النفوذ الإيراني في سوريا، وهو نفوذ مرشح للإزدياد في ظل الاستنزاف الروسي في أوكرانيا، لاسيما بعد تفجر الخلاف بين قائد قوات فاغنر بزعامة بريغجون والكرملين ووزارة الدفاع الروسية، حيث من المرجح أن يؤثر هذا الخلاف بغض النظر عن مآلاته على الوجود الروسي في سوريا لصالح الوجود الإيراني على الأرض.
من دون شك، هذه التطورات وغيرها، هي التي تقف وراء توجه الأطراف المعنية إلى جعل اجتماع 20 لأستانا بمثابة نهاية لهذا المسار، والإنتقال إلى مرحلة جديدة، لعل من أبرز ملامحها:
- إخراج فصائل ( المعارضة السورية ) من مسار أستانا بشكل نهائي، بعد أن كانت طرفاً فيه، ولو شكلياً، تحت إمرة الجانب التركي، وتحويل الأنظار إلى اللجنة الدستورية من جديد مع أن كل المؤشرات تشير إلى أن نتائج الأخيرة لن تكون أفضل من نهاية أستانا.
- بات النظام طرفاً رباعياً إلى جانب روسيا وتركيا وإيران في مسار أستانا، مع التأكيد على أن كل الجهد الجاري بات برعاية روسية، ومع الإشارة مجدداً إلى أن أستانا تحوّل إلى مسار للتطبيع بين دمشق وأنقرة، فإن الثابت أن الجانب التركي هو من سيدفع بـ “المعارضة” للاستجابة إلى خطوات التطبيع مع دمشق، وربما تكرار تجربة الجنوب السوري مع شماله رغم صعوبة الأمر بسبب حجم التعقيدات، وطبيعة أيديولوجية القوى المسلحة الموجودة على الأرض.
- تحديد بوصلة الرباعي الناتج عن أستانا 20 نحو شرقي الفرات، والحجة هنا، هي الحفاظ على وحدة الأراضي السورية بزعم محاربة (الدعوات الانفصالية) غير الموجودة أصلاً، وضرورة إنهاء الوجود العسكري الأمريكي هناك، والثابت هنا، أن مصالح هذا الرباعي تتقاطع عند هذه النقطة مع أن الأجندات والخلفيات مختلفة ومتضاربة؛ فالروسي يريد توجيه التركي والإيراني نحو الصدام مع الأمريكي في شرقي الفرات في إطار الصراع بين الجانبين، وهو يريد القول للأمريكي: طالما تدعم أوكرانيا فلماذا لا أقوم بنفس الشيء ضدك في سوريا؟ والتركي يريد ضرب الإدارة الذاتية لأسباب تتجاوز الأزمة السورية إلى القضية الكردية التي تحرّك السياسية التركية، وهذا هدف يتقاطع معه كل من الجانبين الإيراني والسوري، كل لأسبابه، وبغض النظر عن جدية هذه الأطراف في الذهاب إلى مواجهة مع الجانب الأمريكي، فإن هذا المعطى الجديد يزيد من مساحة المناكفة مع الجانب الأمريكي، ويدفع الأخير إلى التحسّب لمواجهة محتملة عبر زيادة قدراته العسكرية والنوعية في هذه المنطقة التي باتت استراتيجية له في الصراع الجاري على مستقبل المنطقة.
حصاد أستانا في اجتماعه الأخير باعتماده على الرباعية التي ترعاها روسيا، هو تحوله من مسار للتهدئة وخفض التصعيد إلى مسار للتطبيع بين أنقرة ودمشق، وبات يمثّل نهاية مأساوية “للمعارضة السورية” المحسوبة على أنقرة مع انتهاء دورها الوظيفي، بعد أن رهنت نفسها طويلاً للأجندات التركية، كذلك ثمة تعقيد إقليمي في مواجهة الجهود العربية إزاء إيجاد حل للأزمة السورية، والأهم هنا هو تمييع إمكانية إيجاد حل سياسي لهذه الأزمة بعد هدر كبير للوقت على حساب الدماء السورية، وتفاقم معاناة السوريين في كل الاتجاهات، إلى درجة أن لقمة العيش تحولت إلى هدف ما بعده هدف، في تأكيد على أن المأساة السورية مرشحة للمزيد من التفاقم، خاصة في ظل انشغال العالم بأزمات باتت عالمية، على رأسها الحرب الروسية – الأوكرانية، وتداعياتها على العلاقات الأمريكية – الروسية في الساحة السورية.