منذ 25 عاماً.. شاب في الرقة يتفرد بصناعة السفن

الرقة مصطفى الخليل

في محل حدادة صغير وسط بلدة المنصورة على ضفة نهر الفرات اليمنى 25كم غرب الرقة، وفي الشارع الرئيس الذي يفضي إلى موقع الرصافة الأثري جنوباً، تجد محمد، منهمكاً كل صباح بمد ألواح معدنية على أرضية المحل، لأخذ قياسات قاعدة السفينة بكل رويّة ودقة متناهية.

بالرغم من أن مهنة صناعة السفن في وقتنا الحالي لم تعد تدر أرباحاً كافية تتناسب مع الجهد المبذول والدقة والإتقان التي تتطلبها، إلا أن محمد عبود (38عاماً) مازال مستمراً في هذه المهنة منذ أكثر من 25 عاماً، وذلك بسبب شغفه بمهنته.

يقول “عبود” لنورث برس: “إنني أعشق مهنة صناعة السفن، وأشعر بالسعادة عندما أرى السفينة التي قمت بصناعتها تجوب مياه نهر الفرات لتتحصل عائلة ما على رزقها من صيد الأسماك عبر تلك السفينة”.

عرفت بلدة المنصورة، صناعة السفن المعدنية الصغيرة، أول مرة منذ أكثر من نصف قرن، وكان صيادو الأسماك قبلها يستخدمون الحلل الدائرية المصنوعة من الحديد أو النحاس لمزاولة عملهم، والتي هي أشبه ما تكون بقدور الطعام الكبيرة.

وحتى أربعينيات القرن الماضي، وقبل تشييد الجسور على نهر الفرات كانت جميع السفن الموجودة في المنطقة تُصنع من الأخشاب، ولم تكن وظيفتها تقتصر حينها على صيد الأسماك فقط، بل تعد الوسيلة الوحيدة للتنقل بين ضفتي النهر.

شيخ الكار

يصف “عبود” السفن الخشبية القديمة بأنها “قاسية” على “السفَّان” إذ أنها تصبح ثقيلة بسبب سرعة تشرب أخشابها للمياه، ما يؤدي إلى تباطؤها وصعوبة التحكم بها، وهي بعكس السفن المعدنية الصغيرة الرائجة في الوقت الحالي إذ “تمتاز بالليونة والسرعة”. 

يقول صانع السفن، إنه يوجد ثلاثة أنواع للسفن المعدنية في الوقت الحاضر، نوع “البجعة” وهو أقدم أنواع السفن المعروفة في المنطقة، والنوع الثاني يسمى “الموزة” وأما النوع الثالث والدارج في الفترة الحالية فيسمى بنوع “الصاروخ” ويعد أسرعها وأكثرها سلاسة للصيادين.

ولكن هناك أنواعاً أخرى من السفن المعدنية الصغيرة، وهي نوع غير مخصص لصيد الأسماك، بل يُقبل على اقتنائها عادة بعض الأشخاص بقصد التنزه في نهر الفرات، وهي أكثر سعة من السفن العادية.

وتصمم في داخل تلك السفن مقاعد للجلوس فوقها، وتغطى من الأعلى بقطع قماشية ملونة، لمنع وصول حرارة الشمس، ويعد هذا النوع نادرٌ، ولا رواج له إلًّا عند فئة قليلة من الناس وهم من أصحاب “المزاج”، بحسب تعبيره.

“شيخ الكار” الذي تتلمذ على يديه “عبود” والذي تَعرف من خلاله على سر المصلحة، يعمل اليوم في مجال صناعة السفن والبواخر الضخمة في ميناء بيروت على شاطئ “البحر الأبيض المتوسط” والذي يعتبر أحد أعرق وأشهر موانئ الشرق القديم.

اعتزاز بالمهنة

تأثرت مهنة صناعة السفن كغيرها من المهن في عموم البلاد، وذلك بسبب انخفاض قيمة الليرة السورية وارتفاع أسعار المواد الأولية لهذه الصناعة، كألواح الحديد والتوتياء، إضافة لغلاء ثمن مادة اللحام المعدني، فقبل الحرب كانت تكلفة السفينة الواحدة بحدود ثلاثة آلاف ليرة سورية، في حين أن تكلفتها في الوقت الحالي تصل إلى (250) دولاراً أميركياً. طبقا لـ”عبود”.

يعتز الصانع بمهنته ويحاول تطويرها وتوريثها لأبنائه من بعده، ويعدها هواية قبل أن تكون مهنة فهي لا تقل شأناً عن هواية الرسم والنحت، بحسب قوله.

ففي كل الخطوات التي تتطلبها صناعة السفينة، ومنذ اللحظة الأولى لمد اللوح المعدني لرسم مخطط قاعدتها، وصولاً إلى المرحلة النهائية التي يستلم بها الزبون السفينة جاهزة للعمل، يتخيل “الرجل” كيف لهذه الألواح المعدنية الصماء أن تجوب مياه الفرات بكل ثقة وطمأنينة.

قصة تعلق “عبود” بمهنته التي تعلمها منذ نعومة أظفاره في هذه البلدة الصغيرة، دليل على تمسك الإنسان الفراتي ببيئته، وهي تعبير صادق عن مدى التفاعل الإيجابي معها لصناعة لوازم المعيشة فيها بغية استمرارية عجلة الحياة في وسط متواضع مادياً.

فبلدة المنصورة والتي تعد حاضرة البادية السورية، تتماهى في طرفها الجنوبي مع صحراء مقفرة شاسعة تمتد حتى عمق الجزيرة العربية، بعكس طرفها الشمالي الذي يعج بالحيوية والنماء حيث تتعانق بيوتها الصغيرة مع نهر الفرات لتتداخل مع مياه النهر، وسط حقول واسعة من “القمح الذرة القطن الخضروات وبساتين الفاكهة”.

ولا يخدش هدوءها الريفي المعتاد سوى جلبة أصوات صيادي الأسماك أثناء جرهم سفنهم الصغيرة إلى عمق النهر، والتي صنع غالبيتها “عبود”، كونه الوحيد في بلدته الذي يمتهن مهنة صناعة السفن في الوقت الحالي.