في الشمال السوري: تحضيرات حرب أم مسرحية تسليم؟

أن يتزامن التصعيد العسكري وخروقات النظام عبر القصف مع، أو قبل، أي جولة تفاوضية مقررة في أستانا أو اللجنة الدستورية، هو أمر اعتاد السوريين عليه. لكن، أن يكون التصعيد العسكري عبر الطيران الروسي فذاك أمر جديد خاصة إذا ما ترافق مع تعزيزات عسكرية لقوات النظام وإيران.

في المفردات الميدانية تم رصد تعزيزات عسكرية كبيرة لنظام الأسد في أرياف حلب الشمالية وقرب بلدات منغ وتل رفعت، وكان لافتاً لأول مرة الزج باللواء 105 حرس جمهوري، إضافة لأرتال ضخمة من الدبابات والمصفحات التي وصلت لأطراف مدينة سراقب، وشمال حلب، قادمة من حمص وحماة وأرياف دمشق، مع معلومات تؤكد أن إيران نقلت لمطار أبو الضهور في ريف إدلب الجنوبي طائرات إيرانية مسيّرة “انتحارية”. وبدأت على الفور عملية تدريب عناصر الأسد على استخدامها، ومع هدوء التحركات العسكرية (المستغرب) من قبل الجيش الوطني والجبهة الوطنية للتحرير، اللذان آثرا البقاء على استعداد إنما في الخطوط الخلفية، إلا أن عيون الرصد لاحظت حركة نشطة لقوات التحالف الدولي وللأمريكان، لاسيما أن هناك معلومات عن إمكانية عودة الجنود الأمريكيين لمواقعهم التي أخلوها سابقاً في قاعدة عين عيسى شمالي الرقة. 

دون مقدمات انفجرت جبهات الشمال عبر خروقات مدفعية وصاروخية وقصف جوي غير مسبوقة، وعلى عدة مواقع، وبعد قصف بـ 12 صاروخاً على معبر باب السلامة سقط قسم منها داخل الأراضي التركية ونُسب لقوات سوريا الديمقراطية المتمركزة في منغ وتل رفعت،  لكن التقارير الميدانية أكدت أن قوات الأسد هي من قامت بالهجوم، بدليل أن الجيش التركي رد على مواقع النظام وقتل ما بين 17_24 من عناصر تلك القوات المتواجدة في شمال حلب، غير أن الإعلام التركي أصر عبر بياناته ومعرّفاته على اتهام “قسد” بالخرق والقصف.

في الواقع، أصاب القصف التركي، بإحدى صليات مدفعيته وهجوم طائراته المسيرة من نوع “بيرقدار”، عربة تتبع للشرطة العسكرية الروسية فقتل جندياً روسياً وأُصيب ثلاثة آخرون، قامت على إثرها قاعدة حميميم بإعادة جنودها إلى داخل بلدة تل رفعت، وأغلقت المجال الجوي السوري بوجه الطائرات المسيرة “بيرقدار” التركية، وانطلق طيران الاستطلاع الروسي ليغزو سماء المناطق “المحررة” بالشمال السوري، أعقبه قيام مدفعية النظام والطيران الروسي بقصف شديد على عدة مناطق طالت (خلال الـ48 ساعة الماضية) بلدات وقرى العنكاوي، الأتارب، أطراف إدلب، قرقونيا، الشيخ بحر، أحياء البارة، خان السبل والأبزمو، ردت عليه فصائل الجيش الوطني والجبهة الوطنية بعدة مناطق، وشاركت هيئة تحرير الشام بقصف أرتال دبابات للنظام على محور سراقب، خان العسل، وعلى ميليشيات إيران في الفوج 46 في أرياف حلب الغربية، أما المدفعية التركية فعادت لتقصف مواقع للنظام في كفرنبل ومعرة النعمان ودارة عزة، إضافة لقصف مسيّرة تركية لسيارة بالقرب من القامشلي.

المعلومات أكدت أن اجتماعاً مشتركاً رفيع المستوى ضم خليطاً من ضبّاط قاعدة حميميم وضباط من جيش الأسد، إضافة لضباط من الحرس الثوري الإيراني، وصلوا على عجل إلى مطار النيرب وتوجهوا مباشرة لمكان الاجتماع الثلاثي في مبنى قيادة المنطقة الشمالية في حلب، دون تأكيد أو معرفة تفاصيل الاجتماع والغاية والأهداف من التصعيد المفاجئ وانهيار الجبهات من حيث الخروقات حتى الآن، رغم أن اجتماع أستانا المعلن بتاريخ 20_21 حزيران/ يونيو الحالي، انعقد بشكل طبيعي في يومه الأول وكأن شيئاً لم يحصل باستثناء تصريح لرئيس وفد المعارضة السورية، الدكتور أحمد طعمة، الذي أدان الهجمات الروسية والأسدية على المدنيين بالشمال السوري.

الملايين السورية الستة المتواجدة في الشمال السوري هم من يتحمل عواقب القصف الروسي والأسدي، وهم منشغلون اليوم في محاولة فهم ما يحصل، والأسباب التي أدت لهذا التدهور المفاجئ بعد هدوء حذر خيّم على المناطق المحررة طيلة الأشهر القليلة الماضية، ومع تسريبات عن اجتماعات لبعض قادة الجيش الوطني في مبنى أمن الدولة بحلب مع اللواء حسام لوقا، سبقتها تسريبات عن اجتماع لوفد سياسي_ عسكري معارض في معبر كسب على الحدود السورية_ التركية، واجتماعات أخرى قيل أن أبو ماريا القحطاني (مبعوث زعيم هيئة تحرير الشام الجولان وذراعه الأيمن وكاتم أسراره) عقدها مع عضو مجلس الشعب الأسدي أحمد درويش في قرية أبو دالي، وأن هناك اجتماعاً آخر في دمشق جمع أبو محمد الجولاني مع اللواء علي مملوك رئيس مكتب الأمن الوطني في نظام الأسد. التسريبات المريبة أوحت بشكل ما أن هناك عملية تسليم لمعبري باب الهوى وباب السلامة للروس ونظام الأسد، وأن الخطة تقضي بدخول مؤسسات النظام الخدمية دون الجيش والأمن للشمال السوري بعد تحويل الجيش الوطني لقوى أمنية وتطبيق سيناريو “أحمد العودة” بالجنوب السوري، وانضمام من يقبل بهذا المشروع ليكون جزءاً من الفيلق الخامس التابع لقاعدة حميميم والمموّل من قبلها.

لكن هناك من أكد أن القيادة التركية، ما بعد فوز أردوغان وحزبه بالانتخابات البرلمانية والرئاسية، ليست كما كانت قبلها، وأن زوال الضغوط الخارجية والداخلية على الرئيس أردوغان وحزبه قد حرره من كثير من الوعود التي أعطاها سابقاً تحت حالة الضغط الانتخابي، وأن الرفض التركي الحالي، المتوقع، لتنفيذ التوافقات المعقودة مع الروس والتي تترافق مع اجتماع أستانا، أغضب موسكو فاحتكمت للميدان بعيداً عن أي تعكير لصفو العلاقات الاستراتيجية بين موسكو وأنقرة.

من بين التحليلات الممكنة أيضاً لأسباب التصعيد العسكري الحالي: أن الأسابيع القليلة الماضية حملت الكثير من التصريحات الغريبة لأمراء الجولاني ومطبليهم، تحدثت عن “معركة حلب”، و”استعادة حلب”، و”المعركة الكبرى”. صحيح أن معظم الحاضنة الشعبية لا تثق بالجولاني ولا بأهدافه السلطوية، لكن قد تكون قاعدة حميميم ونظام الأسد قد أخذا بعين الاعتبار تلك التصريحات، وبالتالي فإن التصعيد الحالي، وإذا ما أعقبه هجوم ميداني قد يُشكل ضربة استباقية للتحضيرات العسكرية “لهيئة تحرير الشام” من أجل حماية حلب.

حتى الآن لا يمكن الإجماع على قراءة موحدة لما يجري في الشمال السوري، ولا يمكن الوصول لإجابات شافية لأسئلة محقّة تشغل أذهان سكان المخيمات في الشمال السوري. في ظل غياب كامل لقيادات المعارضة السياسية والعسكرية والحكومية، وإحجامها حتى عن التصريح أو إبداء أي تحرك سياسي أو عسكري.

فهل نحن أمام عملية تصعيد عسكري مرسومة ومتفقة عليها، لتمرير مسرحية التسليم وتمرير الطبخة العفنة التي طبخت في مرحلة سابقة؟ أم أن الشمال يدفع أثمان رفض تركي متأخر لوعود تراجع عنها، أم أن كل ما يحصل لا يعدو كونه تصعيد عسكري روتيني اعتاد عليه السوريين لكنه يتم الآن بوتيرة أعلى مما كان عليه في السابق.

الأيام القليلة القادمة قد تحمل في رحمها إجابات لكل ما نجهله اليوم.