المحاكمات: تفكيك قنبلة داعش النشطة

تبدو رغبة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا في تقديم معتقلي داعش للمحاكمة أقرب لصورة من يريد إبطال عمل قنبلة نشطة وموقوتة. كشف هجوم 20 كانون الثاني/يناير 2022 على سجن الصناعة بالحسكة وما خلّفه من قتال دام لقرابة تسعة أيام، أن تحطيم السجون وتخليص معتقلي داعش هو الغاية الأساسية للتنظيم لاستعادة نشاطه والشروع في موجة إرهاب جديدة بالاستناد على من سعى التنظيم إلى “تحريرهم”.

في سجون الإدارة الذاتية، ثمة الآلاف من عناصر داعش يقدر عددهم بعشرة آلاف عنصر (مقاتلين و”أمراء”)، ولا مبالغة في وصفهم بالأشد خطورة في العالم. يتطلّع هؤلاء السجناء إلى تدهور الأوضاع الأمنية في المنطقة، فهم كمن ينتظر حافلة تقلّهم إلى مكان عملهم السابق حيث لا محاكمات تقضي بمعاقبتهم على جرائمهم، فوق أن طبيعة سجنهم دون إجراء محاكمات يقودهم إلى التطلع للحظة فرارهم، ذلك أن عناصر التنظيم هم فعلياً خارج الزمن، والمحاكمات والعقوبات كفيلة بأن تعيدهم للزمن الحالي وبدء احتسابه، بدل أن يبقوا في حالة انتظار هي مزيج من الرجاء والتوقّع في أن يأتي من يخلّصهم من السجون المُحكمة. بهذا المعنى، فإن إنزال العقوبات بالمجرمين كفيل بتحويلهم من محتجزين، والحجز يحمل دلالة الشيء المؤقت والعابر، إلى سجناء.

ورغم أن العالم بما في ذلك الدول التي وفد منها عناصر التنظيم (الحديث هنا عن أكثر من 60 جنسية أجنبية) كادوا أن يدفعوا ثمن نجاح داعش في عملية سجن غويران لولا أن قوات سوريا الديمقراطية نجحت في تطويق الموقف وإفشال عملية الفرار وتعقّب بعض من تسنّى لهم الهرب. لكن، رغم اللحظات العصيبة تلك، لم تسمع الدول صوت قرع جرس الإنذار في الحسكة وقتذاك، وعاودت سياسة إهمال ملف سجناء داعش وتركهم تالياً في عهدة الإدارة الذاتية وقسد هكذا إلى ما لا نهاية.

والحال، أن إعلان الإدارة الذاتية الشروع في محاكمة عناصر التنظيم، في بيان صدر في 10 حزيران/يونيو الجاري، جاء بعد مطالبات طويلة لحل ملفي المعتقلين وأُسر التنظيم في مخيمي الهول وروج، و”بسبب عدم تلبية المجتمع الدولي لنداءاتها ومناشداتها للدول لاستلام مواطنيها من التنظيم، وإحقاقاً للحق، وإنصافاً للضحايا، وتحقيقاً للعدالة الاجتماعية” على ما قاله البيان.

يطرح قرار الإدارة جملة من المسائل الفنية وأخرى ذات صبغة سياسية متصلة بموضوع المحاكمة، إذ ينبغي للإدارة أن تخصص لهذه المحاكمات، التي يجب أن تكون مارثونية نظراً للعدد المهول من المعتقلين، الموارد المالية الكافية، وأن تؤهل فرق القضاء وجهة الإدعاء، فضلاً عن أن “علنية” المحاكمات الذي هو شرط الوصول إلى محاكمات “شفافة وعادلة” على ما جاء في البيان، بحاجة إلى إعادة نظر، ذلك أن المسألة بطابعها الأمني تحتّم حماية الجهاز القضائي، كما أن برنامج حماية الشهود وجهات الإدعاء يجب أن يقع في صلب عمل الإدارة، بالتالي فإن علنية المحاكمات تنطوي على هامش مخاطرة يجب أن يؤخذ بالحسبان، ويضاف إلى ذلك إمكانية أن يوجّه المتهمون رسائل إلى الخارج أثناء المحاكمات.

ويدخل في باب المسائل التقنية والفنية سؤال القانون الواجب اتباعه، ولئن كانت المحكمة ستعتمد على القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني والقوانين المحلية الخاصة بالإرهاب، فإن احتمال تناقض وتنازع القوانين وارد مع كثرة الإحالات القانونية إلى القوانين الدولية والمحلية والوطنية.

كذلك، ستحدد العقوبات إعادة النظر في نظام السجون، وطرق ووسائل عزل السجناء تبعاً للأحكام التي صدرت بحقهم، كما أن العقد الاجتماعي “دستور الإدارة الذاتية” والناظم لكل التشريعات والقوانين التي تصدر عن الإدارة ألغى عقوبة الإعدام مهما كانت شدّة أو وحشية الجريمة المرتكبة، الأمر الذي سيعني بروز المطالبات من فئات غير قليلة تدعو إلى إنزال هذه العقوبة بمرتكبي بعض الجرائم، وقد يصار إلى مناقشة الفرق بين الإعدام بوصفها عقوبة مانعة للحياة، والسجن المؤبّد بوصفها عقوبة مانعة للحرية.

الوصول إلى محاكمات “عادلة وشفافة وعلنية” لا يعني التخفّف من عبئ السجناء أو تقليص عددهم المهول، إلّا أنها ستقطع مع حالة الاحتجاز المديدة وتعزز قدرة السكان المحليين من بلوغ حدود معقولة لممارسة العدالة، فالحكم على ما تقوله الأدبيات القانونية هو “عنوان الحقيقة”. لا يمكن أيضاً تعزيز العدالة دون إنصاف الضحايا، لذا ينبغي أن تكون هناك محاكمات فرعية فيما خص بعض الجرائم، كالمحكمة الخاصة بجريمة الإبادة الإيزيدية، والجرائم الواقعة على النساء وغيرها. لا يعني ذلك التمييز القانوني بين الجرائم ذات المؤدّى أو النتيجة الجريمة الواحدة، بقدر ما يعني إعادة الاعتبار للضحايا الذي دفعوا ثمن هويتهم الجندرية أو الإثنية أو الدينية.

من المتوقّع أن تتذرّع اتجاهات سورية وأخرى إقليمية بعدم قانونية المحكمة، وقد يدافع البعض، ممن لم يدافعوا عن آلاف الضحايا، عن الإرهابيين وتقديم اعتراضات على العقوبات. هذه مسائل متوقّعة، وتفرض على الإدارة الذاتية أن تعلي من شأن المعايير المرتبطة بحقوق الإنسان وأن تتوخّى الدقة في إجراءاتها القانونية، كما ينبغي أن تقام فعاليات وورشات قانونية سابقة على المحاكمات، وأن تجعل من الإعلام والمجتمع المدني شريكاً مساهماً في إنجاح هذه المحاكمات الشاقة والضرورية.

ثمة بشاعة أيضاً تستبد بالمرء عند التفكير في تجاهل الدول لملف سجناء وعائلات عناصر داعش؛ فالأمر يبدو أقرب لسلوك دول أوروبية في القرن الثامن عشر عندما كانت تعزل “المجذومين” في جزر نائية، أو ما سيعرف بجزر المجذومين، والحال أن شيئاً من هذا التعالي وممارسة سياسة إغماض العين والعزل يتم العمل به في هذه الأثناء، إذ لا ترى كثير الدول في مواطنيها المعتقلين “الدواعش” سوى “مجذومين” جدد يجب عزلهم في بلادٍ نائية أو في “مستعمرة عقاب” بعيدة. وعليه، أمام الإدارة الذاتية فرصة في أن تحوّل المحاكمات العلنية لمقاتلي التنظيم الأجانب إلى مسألة رأي عام في بلدانهم أيضاً.