لا يختلف الألمان كثيراً على دور الاحتلال البونابرتي، أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن الذي تلاه، على مسألة التحديث والتوحيد عندهم، على عكس ما فعل العرب بالموضوع نفسه، مع حملة نابليون الأقصر والأسرع في الفترة ذاتها. يقول بعض جماعتنا أن أثر تلك الحملة كان حاسماً في” النهضة” التي تبعته لاحقاً بمطبعته ووفده العلمي المرافق وقوة المثال، ويقول بعضهم الآخر إنه كان مجرّد فتح وتوسّع استعماري يقطع طريق الشرق الهندي على بريطانيا وأن ما خدم تلك “النهضة” هو مطابع حلب ومسيحيي المشرق وتماسّهم مع الغرب الأوروبي، وهنالك بعض ثالث يحمّل على الإصلاح الديني/الوهابي تحفيزَ ذلك.
ولعلّ موضوعاً يبدو بسيطاً يمكن أن يفكّك تلك الأحجية، وهو كون نابليون قد نقل معه إلى أوروبا ما لم يستطع أو عجز عن حملهما إلى مشرقنا البائس المكبّل، وهما قانونه المدني الذي يساوي بين أفراد المجتمع أمام العدالة، ونظام التعليم الثانوي (الليسيه): أي سيادة القانون وتعميم التعليم والاختصاص، وهما مكوّنان مهمّان في أساس أيّ عملية تحديث. حدث هذا في ألمانيا، رغم أنّه كان لديها بذور ذاتية للتقدّم لا تخفى، كما كان لدى العرب بذور أيضاً، على قدّهم ومثالهم.
وموضوعنا الأصلي هنا هو التجربة الألمانية القومية بين المركزية واللامركزية، كما ابتدأت في التبلور بعد ذلك الاحتلال الفرنسي أو خلاله، مع وجود مآلات الإصلاح الديني الذي كان قد ابتدأ بدوره قبل قرنين، وانتقل ثقل تأثيره ليرافق التحديث الأمريكي أيضاً. وكلا التحديثين الأمريكي والألماني، ضروريان عند الحديث في اللامركزية.
كان لحمولة الثورة الفرنسية كما تبلورت في عهد نابوليون وجهان: قومي وليبرالي، انعكسا في جدل التجاذب والتنافر على التجربة الألمانية. جاءت النزعة المركزية بتأثير الوجه الأول خصوصاً، مع عوامل أخرى؛ وجاءت النزعة اللامركزية بتأثير الوجه الثاني، أيضاً مع عوامل أخرى. ولهذا وذاك جذور تاريخية وفكرية في القرنين الماضيين.
ألغى نابليون في عام 1806 الأمبراطورية الرومانية المقدسة بعد أن عاشت وتخمّرت لألف عام (ولم تتأثّر وقتها بشكل حاسم تلك الأمبراطورية المقابلة المتخمّرة بدورها: الخلافة العثمانية). وحين اجتمعت القوى”الرجعية” الأوروبية بعد أن هزمت نابوليون، لم تعد إلى دفاترها القديمة ذاتها، بل تلقّت الصدمة واستوعبتها، بل كرّست العديد من جوانبها، وخصوصاً في استكمال إلغاء الأمبراطورية المقدسة، ووضع أسس جديدة للسياسة الدولية والقانون الدولي ابتداءً من مؤتمر فيينا الذي ترأسّه مترنيخ بقدراته وملكاته: الرجعية/ التقدّمية بمعنى من المعاني.
تأسس الاتّحاد الألماني( الكونفدرالي) انطلاقاً من ذلك المؤتمر، ليضمّ 39 ولاية أو دويلة في إطار موحّد جديد. قبل ذلك كانت ألمانيا ولغتها منتشرتين بتوسّع في وسط أوروبا وفي قلب الإمبراطورية القديمة بعاصمتها في النمسا، التي تتحدّث بدورها بإحدى اللهجات الألمانية الكثيرة.
كانت النمسا وبروسيا العضوتين الأكبر والأكثر تبلوراً في الاتحاد، وكان لكلّ منهما صوت واحد في مجلسه. وكان مثل ذلك ليست دول رئيسة أخرى (بافاريا وساكسونيا وفورتمبرغ وهيسه وبادن ودوقية هيسه أيضاً)، مع صوت واحد مشترك بين أربع مدن مستقلة (بريمن وفرانكفورت وهامبورغ ولوبيك)، وتوزّعت خمسة أصوات بين 23 دولة أصغر. بذلك كان هنالك دور وفاعلية لعدد السكّان من دون أن يكون لذلك وحده كلّ تلك الفاعلية، وهذه أهمّ جوانب النظر إلى اللامركزية والهويات المكوِّنة.
اكتسب الجانب الاقتصادي الاجتماعي، في التصنيع والتجارة والتعليم أيضاً، زخماً إضافياً، في الوقت الذي تماوجت فيه تلك الكونفدرالية مدّاً وجزراً حتى اكتسبت النزعة القومية قوةً إضافية بين يديّ المستشار الاتّحادي الأمير بسمارك، فوحّد ألمانيا مباشرة بعد الحرب مع فرنسا نابوليون الثالث، عام 1871. ابتدأ بذلك مسار مركزي/ قيصري كان له فعل هامّ أيضاً بالمعني التحديث العضوي؛ لكنّه انتهى إلى قدح زناد حرب عالمية أولى بين عامي 1914 و1918، ودخول ألمانيا في نفق أشدّ ضيقاً.
مرّ ذلك النفق بثورة اشتراكية 1919؛ وبجمهورية فايمار بين عامي 1918-1933 الديموقراطية الفدرالية؛ وبصعوبات اقتصادية/اجتماعية/سياسية خانقة تحت ضغوط الهزيمة في الحرب ونتائجها الفادحة… أوصلت النازية وهتلر إلى أغلبية برلمانية، ثمّ تفويض استثنائي بعد حريق البوندستاغ، فمركزية بالغة تتسّق مع ديكتاتورية وطموح إمبراطوري فتّاك… من دون إهمال دور تلك المركزية المتواقت في تلك السنوات، في تحقيق تنمية كبيرة في الجانبين الاقتصادي والعسكري.
اقتسم المنتصرون الرايخ الثالث. أقام الاتّحاد السوفييتي دولة مركزية/شمولية في الشرق، وابتدأت مسيرة ليبرالية/ فدرالية في الغرب حيث مناطق الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، مروراً بكتابة قانون أساسي جديد؛ ورد في الفقرة الثالثة من المادة 79 فيه أنه” لا يجوز إجراء تعديلات على هذا القانون الأساسي من شأنها المساس بتقسيم الاتّحاد إلى ولايات أو بالمشتركة المبدئية للولايات في عملية التشريع، أو بالمبادئ المنصوص عليها في المواد من1-20″. وهذا يعني أنه يستحيل المساس بالمواد 1-19 المتضمنة مسائل الحقوق والحريات، والمادة 20 حول ضمان حق المقاومة؛ ولكن خصوصاً أنّه لا يجوز المساس بالبنية اللامركزية القائمة. يعني هذا أن اللامركزية هناك مسألة مصيرية سابقة على أيّ حق بأي تصويت أو استفتاء.
مثل هذا” التحريم” غير ممكن إلّا إذا كان في صلب أساس قيام الدولة ومن خلال بنية ما تحمل سمات كافية لتحمّل مسؤولية هذا التأسيس، وعلى أساس التوافق مرةً وإلى مدىً زمنيٍّ مفتوح. وبالمناسبة، تمّ في الولايات المتحدة أيضاً تحصينُ اللامركزية القائمة في الولايات عن طريق المادة الخامسة في الدستور، التي جعلت أيّ تعديل مرتبطاً بموافقة ثلاثة أرباع المجالس التشريعية في الولايات أو ثلاثة أرباع مؤتمراتها الخاصة، الأمر الذي يحمي حق تلك الولايات ومؤسساتها التشريعية في شؤونها الخاصة.
وفيما يخصّ ألمانيا، وعلى الرغم من واقع كون الحلفاء المنتصرين الغربيين أصحاب مصلحة في لا مركزيّتها، لمنع عودة أي نظام ديكتاتوري من جديد، إلّا أنه في تاريخ ذلك البلد؛ إلّا في استثناءات نادرة أهمها في الفترة النازية؛ لم يكن في استطاعة الحكومة القومية تقويض استقلال أية حكومة محلية. حتى في” الاتحاد الجمركي” الذي تأسس في ستينات القرن التاسع عشر و” أخرجته الى الوجود ضرورة وجود سوق ألماني موحَّد فقد روّج الاتحاد الجمركي لاحقا لتوحيد ألمانيا السياسي” حسب إنجلز، ثمّ في الإمبراطورية الألمانية التي قامت في عام 1871 بجهود بسمارك، لم يكن ممكناً لأي مركز قومي أن يقوّض استقلال الولايات (البوندس) الذاتي وسلطاتها، واستعاض عن ذلك بجمع اللامركزية مع ترتيبات تشاركية محددة تنظّم التنافس وتضبطه من دون أن تقيّده تماماً، وكان لذلك تأثير إيجابي على التنمية الشاملة فيما بعد.
وملاحظة أخيرة: أنه مع ابتداء تداعي جمهورية ألمانيا الديموقراطية تدريجياً في عام 1989، سرعان ما عادت خيوط البنى المحلية لولاياتها بالتبلور والتعبير عن ذاتها، على الرغم من اختفائها في العقود التي سبقت ذلك. ثمّ كان لسياسات الحكومة الفدرالية النقدية، مع إعادة إنشاء الحكومات المحلية وبعث حيويتها، دور أساسي في التحوّل سريعاً إلى اقتصاد السوق والحكم الديموقراطي.
تلك خلاصة سريعة يمكن الاستفادة منها في بلادنا إلى هذا الحدّ أو ذاك!