حوّل الرئيس التركي، رجب أردوغان، قضية حصول السويد على عضوية حلف الناتو إلى معركة سياسية في كل الاتجاهات، وحجته في ذلك، دعم السويد للحركة الكردستانية، ومطالبته استوكهولم بتسليم عشرات المناوئين لحكمه لسلطات بلاده، لكن في الحقيقة، أسباب الرفض التركي تتجاوز ذلك بكثير، فأنقرة تريد اصطياد مجموعة عصافير (كما يقال) من وراء هذا الرفض، صحيح أنها تريد في المقام الأول تجيير حلف الناتو ضد الحركة الكردستانية بحجة محاربة (الإرهاب)، لكنها في العمق تسعى لوقف الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، والحصول على دعم أمريكي – أوروبي لخططه في شمال سوريا، لاسيما قضية بناء المستوطنات هناك، وإسكان اللاجئين المقيمين في تركيا فيها، وفي إطار سياسة المقايضات التي تجيدها، ترى أنقرة أن هذه القضية يمكن أن تدفع واشنطن إلى الموافقة على بيعها صفقة مقاتلات إف- 16، وإعادتها إلى صفقة مقاتلات إف- 35 التي أبعدت منها على خلفية شرائها منظومة إس – 400 الروسية، وأبعد من كل ما سبق، تخشى تركيا من مسألتين مهمتين، وهما:
الأولى- أن موافقة أنقرة على ضم السويد إلى عضوية الناتو، قد تضر بالتفاهمات القائمة بين تركيا وروسيا في سوريا وأوكرانيا والقوقاز..، وهذا أمر حساس لكل من أردوغان وبوتين، حيث يحرص الطرفان الحفاظ على هذه التفاهمات لأسباب حيوية لكل منهما، ولعل هذا ما يفسر العروض الكثيرة التي يقدمها بوتين لأردوغان في سوريا وأوكرانيا..، فيما يرفض أرودغان انطلاقاً من ما سبق الانضمام إلى العقوبات التي فرضها الأطلسي على روسيا، ولعل أردوغان يدرك غضب بوتين وقدرته على خلط أوراقه في العديد من الملفات الحساسة.
الثانية – إن ضم السويد إلى عضوية الناتو سيزيد من أهمية بحر البلطيق، ويضعف من مكانة تركيا الحيوية في الاستراتيجية الأطلسية، إذ إن ضم السويد سيضع بحر البلطيق تحت سيطرة حلف الناتو، وبهذه السيطرة يستطيع الناتو فرض حصار على مدن روسية حيوية، لاسيما بطرسبورغ ، كما يستطيع وقف حركة ضخ النفط الروسي إلى أوروبا، وفي المجمل سيحقق التوسع الجديد للحلف إمكانات هائلة للحلف الذي يفكر جدياً بضم أوكرانيا إلى عضويته، وهنا بيت القصيد بالنسبة لتركيا، حيث أن ضم الأخيرة سيضع تركيا في موقف حرج، خاصة أن ذلك سيجعل من البحر الأسود ساحة مواجهة روسية – تركية أطلسية، وهو ما لا تريده تركيا بالمطلق، لذا ترى في عرقلة ضم السويد للناتو تأخيراً لمثل هذه المواجهة.
الولايات المتحدة في مواجهة الابتزاز التركي، تتصرف على أساس أن عضوية السويد منتهية، وأنها غير قابلة للتراجع، وأن كانت تحتمل عقد مقايضات مع تركيا، من نوع عقد صفقة معها في مجال طائرات إف – 16 رغم وجود معارضة كبيرة في الكونغرس، لكن ذلك لا يعني الذهاب إلى حد تقديم تنازلات جوهرية في الاستراتيجية الأمريكية وإلا فإن العصا الأمريكية جاهزة، إذ أن الرفض التركي قد يؤدي إلى تجميد عضويتها في الناتو، كما قد يعني زيادة الضغوط المالية على تركيا التي تئن ليرتها تحت وطأة الانهيار أمام الدولار، وهروب الاستثمارات المالية، وإفلاس الشركات، والارتفاع الكبير في الأسعار، وكل ذلك يشكل تهديداً جدياً لحكم أردوغان في ولايته الثالثة والأخيرة، فضلاً عن عدة مسائل تدخل في الحسابات التركية: إعلان وقف طلب عضويتها إلى الاتحاد الأوروبي، وضم قبرص إلى عضوية حلف الناتو، والأهم زيادة الدعم العسكري الأمريكي والأوروبي لليونان، وهو ما يشكل تهديداً للتوجهات الأوراوسية التي تصاعدت في تركيا على وقع تقاربها مع روسيا.
في الواقع، يبدو من الواضح أن تركيا برفضها لضم السويد إلى عضوية حلف الناتو، ستجد نفسها أمام تهديد لعضويتها في الحلف، ولخياراتها السياسية المستقلة التي تحدث أردوغان عنها مطوّلاً خلال السنوات الماضية، كما أنها بموافقتها على هذه العضوية ستجد نفسها أمام مواجهة مع الدب الروسي الذي سيجد في هذه الموفقة انحيازاً تركياً للحرب المشتعلة في أوكرانيا، وهي حرب روسية – أطلسية أولاً وأخيراً، وفي كل ذلك امتحان هو الأصعب لتركيا الأردوغانية بعد أن راهنت طويلاً على اللعب على التناقضات بين موسكو وواشنطن.