عمالة الأطفال في سوريا.. معركة العيش والحقوق

مقدمة

الأطفال في سوريا الفئة الأكثر تضرراً من الحرب المستمرة منذ 12 عاماً ومن تداعياتها التي حرمت أكثر من مليون طفل من حقوقهم الأساسية كالتعليم والرعاية الصحية واللعب وعيش حياة كريمة، كما وضعتهم في مواجهة تحديات اجتماعية واقتصادية وإنسانية صعبة, وتعد العمالة القاصرة واحدة من أبرز التحديات التي تواجه الطفل السوري وتعرض حياته ومستقبله للخطر, كونه غالباً ما يتم تشغيلهم في أعمال لا تناسب أعمارهم وتضر بصحتهم ونموهم ورفاهيتهم وتحرمهم من حقوقه.

ويعد اليوم العالمي لمكافحة عمالة الأطفال، الذي يصادف 12 يونيو من كل عام، فرصة للتوعية بخطورة هذه المشكلة والعمل على وضع حد لها.

ويعرض التقرير الصادر عن قسم الرصد والتوثيق في نورث برس شهادات لخمسة أطفال ممن عرضت قصصهم ويعملون في أعمال خطرة ولا تناسب بنيتهم, بالإضافة إلى مقابلة 9 أشخاص من ذوييهم والعاملين في هيئات الشؤون الاجتماعية والمنظمات العاملة في مناطق السيطرة الثلاث.

العمل من أجل العيش

يقف أحمد الحسين (16عاماً)، وهو نازح من شمالي حماة يسكن مع عائلته في إحدى المخيمات بالقرب من مدينة الدانا في إدلب، صباح كل يوم مع عربته النقالة أمام باب إحدى المدارس لبيع الفول، غير قادر على إخفاء حسرته على إكمال دراسته.

ويقول: “أحزن كثيراً عندما أرى الأطفال يلعبون في باحة المدرسة وعند خروجهم منها، أحزن على حالتي التي وصلتُ إليها.”

ويشير الطفل إلى أنه مجبر على العمل لتحصيل ثمن الدواء لوالده الخمسيني المريض، إذ أنه الأكبر بين أخوته، “أعمل لمساعدة أمي في المصروف التي تعمل في مشغل للخياطة لتأمين طعام إخوتي وثمن دواء أبي”.

بينما يعمل الطفل قيس الملحم (13عاماً)، وهو نازح من مدينة صوران شمال حماة، بشكل يومي منذ الساعة السابعة صباحاً وحتى الساعة الخامسة مساءاً في تحميل وتنزيل البضائع من السيارات في متجر لبيع المواد الغذائية.

ويتقاضى “الملحم”، الذي ترك دراسته من أجل العمل، أجراً أسبوعياً مقداره 20 ليرة تركية، والذي يعتبره “قليلاً جداً” مقارنةً بعمله الشاق.

لكنه مجبر على العمل في المحل نظراً لعدم توفر فرصة عمل أخرى، على حد قوله.

ولا يختلف الوضع بين شمال غربي البلاد وشرقها، فآثار الحرب وتداعياتها لم يسلم منها أي سوري, والأطفال يعملون في كل الجغرافية السورية.

يقول الطفل مؤيد الإبراهيم (16 عاماً) من منطقة الشدادة في الحسكة, إنه ترك المدرسة منذ فترة سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) على المنطقة، بعد إغلاقهم للمدارس ومنعهم للطلبة والمعلمين من التوافد إليها.

وتابع مؤيد أن ما دفعه للعمل هو “غياب المعيل عن عائلته المكونة من 6بنات يكبرنه بالعمر، وأب وأم كهلين، وأطفال يصغرونه بالعمر”، إذ يعاني والده من مرض انزلاق الفقرات (الديسك) بسبب عمله السابق في مهنة العتالة.

يضيف مؤيد أنه بدأ بالعمل “منذ عام 2018 بأجر لا يتجاوز 700 ليرة سورية في محل لإصلاح (بوابير) الكاز في قريته بريف الشدادي”.

واختتم مؤيد حديثه بقول بضعة تمنيات: “أتمنى العودة لمدرستي واللعب مع أصدقائي في المدرسة” ويستدرك قائلاً: “ظروف المعيشة الصعبة تقف عائقاً أمامي وتجبرني على الانخراط في العمل والابتعاد عن مقاعد الدراسة”.

أما في مناطق سيطرة حكومة دمشق يعتبر الوضع أسوء كون الظروف الاقتصادية أصعب ووضع العائلات المعيشي متردٍ بسبب ضعف الدخل مقارنة مع المناطق الأخرى الخارجة عن سيطرة الحكومة.

في وسط العاصمة دمشق, في حين كان يجب أن يكون في وقت مقابلتنا له يقدم امتحان الشهادة الإعدادية, يعمل عبد الرحمن (12 عاماً) في ورشة لتصليح السيارات ومنشغلٌ بتنظيف قطعة حديد من الشحم.

وهذه هي إجابة الطفل على سؤالنا له لماذا لست في المدرسة الآن, “الدولة منحتنا التعليم المجاني، لكنها لا تعطينا حليب لأخي الصغير”، ويضيف أن راتب والده بالكاد يكفي ثمنا للطعام وفي حدود دنيا، وأن عليه أن يعمل ليساعد في مصروف البيت، وأن لديه أخاً آخر أصغر سناً لم يستطع بعد العثور على عمل في ورشة، ليكتسب “صنعة”، كان يبيع الخبز أمام الأفران، وصار الأمر صعباً منذ اعتماد بيع الخبز عبر البطاقة الذكية.

أما حسام (16 عاماً)، يقول إنه أنهى الشهادة الإعدادية، وأن عمله في الورشة يحقق دخلاً أعلى من دخل والده الذي يحمل إجازة في التاريخ ويعمل مدرساً، نحو 70 ألف ليرة يتقاضاها من صاحب الورشة كل أسبوع، إضافة إلى بعض “الإكراميات” من الزبائن، بينما لا يصل راتب والده إلى 130 ألف ليرة في الشهر.

وقال عبد الله الشامي، وهو اسم مستعار لأحد سكان دمشق، إنه اضطر لإخراج أولاده الثلاثة من المدرسة “بسبب التكاليف العالية التي لم أعد أستطيع تحملها.”

ولا يختلف الوضع في السويداء, يقول متعب بشنق (40 عاماً)، وهو أب لخمسة أطفال من سكان مدينة شهبا، إنه أخرج ابنيه أحمد (١٠أعوام) وجمال (١٥ عاماً) من المدرسة، وأرسلهما للعمل في محل ميكانيك حتى يساعداه في تأمين مصاريف العائلة.

ويضيف: “ورغم حزني على عدم متابعتهم الدراسة، إلا أن ظروفنا المعيشية قاسية ولا ترحم, كان أمامي خياران، إما متابعة تعليمهما وأخوتهم الأصغر منهم وهذا يتطلب مصاريف لا أقدر عليها، وإما تأمين عمل لهم كي يلبوا احتياجاتهم، وليكتسبوا مهارة تنفعهم في المستقبل”.

حجم الظاهرة في سوريا

تترتب على عمالة الأطفال آثار سلبية، جسدية ونفسية على الأطفال، حيث يعانون من إرهاق بدني وعقلي ويفتقرون إلى فرص التعليم والاستمتاع بطفولتهم, كما أنها تعيق تنمية المهارات والقدرات الفردية للأطفال وتعرضهم للخطر والإهمال, ومن أبرز الأعمال التي يقوم بها الأطفال في سوريا, نبش القمامة لبيع البلاستيك والحديد وغيرها من المواد القابلة للبيع, العمل في المنطقة الصناعية, وحمالين وباعة متجولين ومساعدين في الورشات.

تشير التقديرات الأممية إلى أن نسبة الأطفال السوريين العاملين بلغت أكثر من 25% من إجمالي نسبة العاملين في السنوات الحرب الاثني عشر، بعد أن كانت نحو 10% قبل اندلاع الأزمة السورية، وهذا ما يعني تضاعف عدد الأطفال الذين دخلوا سوق العمل في ظل الحرب التي دارت بين أطراف الصراع.

في تقرير لرصد عمالة الأطفال أجري في السويداء وصلخد وشهبا عام 2020, أظهر وجود ٤١٣ طفلاً عاملاً في المناطق الصناعية بالمدن الثلاث, وكشفت الدراسة السابقة أن٩٠٪ من حالات عمالة الأطفال بدأت بسبب الظروف الاقتصادية الهشة، و١٠٪ لاعتبارات تتعلق باكتساب مهارات ومهن على أمل أن تشكل مصادر دخل لممارسيها, وذلك بحسب تصريح أعطته حينها داليا مسعود إحدى العاملات في منظمة “الغرفة الفتية”، وهي منظمة مدنية في مركز مدينة السويداء تم تأسيسها عام ٢٠١٢.

وأضافت الباحثة لنورث برس، أن هذه الأرقام تُظهر “معدلات ذات خطورة عالية في إخضاع الأطفال لأعمال تفوق قواهم الجسدية والنفسية، ما ينعكس على نموهم البدني والعقلي على حد سواء”.

واستطاع قسم الرصد والتوثيق الاتصال مع إداري من مكتب المتابعة والتقييم ضمن هيئة الشؤون الاجتماعية في حكومة الإنقاذ التابع لهيئة تحرير الشام “جبهة النصرة” في إدلب.

بدوره أشار الإداري أنه لا يوجد تحديد دقيق لنسبة الأطفال العاملين في المدينة, ولكن وبناءً على الإحصائيات الواردة من المكاتب والمجالس والمنظمات, “تتجاوز عمالة الأطفال في العام الحالي عن 37% من الفئة المستهدفة بالدراسة, وهي من 7 سنوات وحتى 15 عاماً منهم 24% إناث, ومن المتوقع أن تكون النسبة أكبر من ذلك لاعتبارات كثيرة تعرقل شفافية عمليات الإحصاء”.

ويضيف: “النسبة الأكبر من عمالة الأطفال ضمن الفئة المدروسة لقطاع الزراعة بنسبة تتجاوز الـ45% يليها قطاع العمل الخدمي في المطاعم والمحلات التجارية وقطاع البناء وقطاع الصناعة، إضافة للتسول وجمع البلاستيك َمن مجمعات القمامة”.

وأشار أن الأطفال يتعرضون للاستغلال مقارنةً مع الأشخاص الأكبر سناً, كون متوسط دخل الطفل اليومي حتى عمر ال15 عاماً لا يزيد عن 30 ليرة تركية أي قرابة 1.3 دولار في احسن الحالات في حين يتقاضى بعضهم 15 دولاراً شهرياً.

أما بالنسبة لشمال شرقي سوريا وبحسب هندرين سينو الرئاسة المشتركة لهيئة الشؤون الاجتماعية والعمل في إقليم الجزيرة, فإن أعداد الأطفال المنخرطين في الأعمال “ضخمة” لكن لا توجد إحصائية دقيقة لهم.

وأشارت سينو أن الإدارة الذاتية حاولت أن تحد من هذه الظاهرة من خلال عدة مشاريع إلا أنه بسبب ظروف الحرب واستمرار توافد النازحين إلى مناطق شمال شرقي سوريا لم تنجح هذه المشاريع.

وأضافت: “توجد حلول لتخطي هذه الكارثة ومكافحة عمالة الأطفال, لكن ذلك يتطلب عملاً مشتركاً بين كافة هيئات الإدارة الذاتية, بالإضافة إلى أنه يجب أن تكون هناك جهود للمنظمات وعلى وجه الخصوص الدولية المعنية بقضايا الأطفال مثل اليونسيف, والتي يجب أن تعمل على مكافحة هذه الظاهرة من خلال القيام بأعمال مشتركة مع الإدارة”.

هل من جهود لمكافحة الظاهرة في سوريا؟

بالرغم من سعي المنظمات المحلية والدولية لوضع حد لتسرب الأطفال من المدارس واللجوء إلى العمل, إلا أن غالباً ما تبوء جهودهم بالفشل, كون العمل على هذه القضية بحاجة لتعاون من السلطات المشغولة فعلياً بالصراع والنزاع مع الأطراف الأخرى, غير مكترثين بالأجيال الصغيرة التي تحارب الظروف من أجل العيش.

وبحسب ناشطة حقوقية تعمل في منظمة مهتمة بشؤون الطفل في شمال شرقي سوريا, فإن جهود المنظمات المحلية لا يمكن أن تغطي هذا العدد الهائل من الأطفال الذين يعملون, وأن المنظمات بحاجة للعمل مع جهات دولية للحصول على تمويل وتأييد من السلطات لتنفيذ مشاريع من الممكن أن تحد فعلياً من عمل الأطفال وتسربهم من المدارس.

وتضيف: “أستطيع القول أن لا شيء فعلي في عمل المنظمات الآن، سوى حملات التوعية وعدة أنشطة التي يمتنع الأطفال العاملين الانضمام لها ويصفوها عديمة النفع ولن تطعمنا الخبز”.

أحد العاملين في وزارة الشؤون الاجتماعية التابعة لحكومة دمشق، يقول لنورث برس، إن العاملين في الوزارة يجدون أنفسهم دائماً في مرمى الاتهامات والمسؤولية عن قضايا لم يكن لهم دور في صنعها، وليس لهم إمكانات في حلها، أو التخفيف منها.

ويتساءل: ما الذي يمكن أن تفعله الوزارة إذا كان دخل الموظف لا يتجاوز 15 دولاراً في الشهر، بينما تصل تكاليف المعيشة وفي الحدود الدنيا إلى نحو 200 دولار.

ويضيف: ما الذي يمكن أن تفعله إن كانت ميزانيتها بالكاد تكفي لاستمرار عمل بعض مؤسسات الرعاية كمعاهد ودور الرعاية؟

ويرى أن سنوات الأزمة أفرزت عدداً من المشكلات الاجتماعية التي ما زالت تتضاعف، وأن الوزارة أو غيرها من المؤسسات لن تكون قادرة على وضع حل، ما لم يكن هناك حل شامل لتلك الأزمة، ووقف النزيف المستمر على الأقل.

أما بالنسبة للقوانين السورية التي لم تعد تنفذ سوى في أجزاء معينة في البلاد, والتي تمنع عمل الأطفال دون سن الـ 15 سنة, يقول المحامي زاهر توما (44 عاماً) وهو محام يقيم في دمشق، إن القوانين والتشريعات التي تم سنها فيما يخص موضوع حماية الأطفال والأحداث “لا ترقى للمستوى المطلوب”.

وأشار إلى أن قانون العمل رقم ١٧ للعام ٢٠١٠  بالإضافة إلى قانون مجلس الشعب 2020 واللذان يمنعان تشغيل الطفل ما دون سن الخامسة عشر، عاد وسمح القانون 17 في فقراته بعمل الطفل ست ساعات كحد أقصى بموافقة والده أو ولي أمره.

ويعتقد المحامي أن “لا إمكانية لتطبيق قانون إلزامية التعليم في ظلّ هذا الانهيار والجوع الذي يعيشه السكان، بل على الحكومة تحمل مسؤولياتها وتوفير حياة كريمة للسكان”.

وبالنسبة للقوانين الدولية، هناك عدة قوانين تهدف إلى منع عمالة الأطفال وحماية حقوق الطفولة, منها اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989, اتفاقية منظمة العمل الدولية (ILO) رقم 138 لعام 1973, وتنص هذه القوانين على ضرورة حماية حقوق الطفل, وضمان وصوله لحقه في التعليم والرعاية الصحية والحياة الكريمة, ويعتبر تنفيذ هذه القوانين في سوريا صعب بسبب تعدد القوى المسيطرة وظروف الحرب التي تمر فيها.

لذا على القوى المسيطرة في سوريا, تعزيز فرص تعليم الأطفال, تعزيز الفرص الاقتصادية للأسر التي تعاني من ظروف اقتصادية صعبة, وضع قوانين جديدة ومحدثة تمنع عمل الأطفال, كما على المنظمات العمل على توسيع نطاق تغطيتها في حملات التوعية والتثقيف, العمل مع السلطات لضمان وصول الأطفال لحقوقهم, كما على السلطات والمنظمات التعاون مع المنظمات الدولية الإقليمية المهتمة بشؤون الطفل لتبادل الخبرات والحصول على التمويل الكافي للحد من هذه الظاهرة.