يلمس من خطابي أردوغان في إسطنبول وأنقرة عشية فوزه بالجولة الثانية من انتخابات الرئاسة التركية في يوم 28أيار/مايو الماضي أن هذا اليوم هو ضمن مصفوفة ثلاثية في ذهن أردوغان يسبقه يوم 27 أيار 1960 الذي وقع فيه انقلاب العسكر الأتاتوركي على رئيس الوزراء عدنان مندريس ويتلوه يوم 29 أيار1453عندما سقطت القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية بيدي السلطان العثماني محمد الثاني(الفاتح).
قبل يوم الانتخابات زار أردوغان قبر مندريس، شبيهه في التوجه الإسلامي، الذي شنقه الأتاتوركيون. وفي خطابه من شرفة قصر أتاتورك بأنقرة ذكًر أردوغان بشعار مندريس في انتخابات1950: “كفى ،الكلمة الآن للشعب!”، والتي أنهى فيها بفوز حزبه: “الحزب الديمقراطي” حكم “حزب الشعب الجمهوري” بعد فترتي حكم أتاتورك وعصمت إينونو منذ عام 1923، وكأنه يذكر بأنه أيضاً قد فاز للتو على خليفتهما في الحزب كمال كيليجدار أوغلو وبأنه ينوي في المئوية الثانية للجمهورية التركية، التي تبدأ في 29 تشرين الأول/أكتوبر2023، الشروع في تطبيق “كفى” ثانية ضد الأتاتوركية العلمانية التي تفادى أردوغان خلال مدة حكم “حزب العدالة والتنمية”منذ عام 2002 الدخول في عملية نزع مباشرة لها شبيهة بعملية نزع الستالينية التي بدأها خروتشوف عام 1956.
وفيما يتعلق بيوم فتح القسطنطينية فإن ذكره في خطابي إسطنبول وأنقرة معاً من قبل أردوغان كان للتأكيد من قبله على توجهه العثماني الجديد عندما قال بأنه “سيستمر في حمل الراية” و”أنتم أحفاد محمد الفاتح”. وليس من دون دلالة أن يذكر مندريس فقط في خطاب أنقرة.
في خطاب أنقرة هناك مديح لمؤسّس القومية الطورانية الحديثة ألب أرسلان توركيش في فترة مابعد إنقلاب 1960، والتي يتحالف أردوغان مع حزبها :”حزب الحركة القومية”منذ عام2015، ومديح لمؤسس التيار الإسلامي التركي بفترة مابعد مندريس نجم الدين أرباكان، وكأن أردوغان يريد من شرفة قصر الحكم القول بأن هناك زواجاً بين هذين التيارين وكلاهما خلال قرن من الزمن كانا بحالة تجابه مع الأتاتوركية .
كان ملفتاً أن يمدح أردوغان في ذلك الخطاب تورغوت أوزال، الليبرالي الاقتصادي، الذي ذكّر قبيل وفاته في عام 1993بأن هناك “عالماً تركياً يمتد من بحر إيجة إلى تركستان الصينية ” في فترة مابعد الانهيار السوفياتي وفي حركة تلاقي مع القومية الطورانية، التي تقول بتوحيد ذلك العالم، فيما القومية الأتاتوركية التركية تقتصر على حدود جغرافية جمهورية 1923، ويأتي مديح أردوغان لأوزال في ظرف تعاني فيه تركيا من أزمة اقتصادية كبرى كان قد أنقذها أوزال من أزمة مماثلة في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات.
وفي خطاب إسطنبول قال أردوغان بأن صلاح الدين ديميرداش الرئيس المشارك السابق لـ”حزب الشعوب الديمقراطي”سيظل في السجن” مادام هو في الحكم “وهو ماترافق مع هجوم شديد من قبله على “حزب العمال الكردستاني”،في إشارة منه إلى أن اتجاه (الأمة الديمقراطية) بمثابة خصم أيديولوجي مثله مثل الأتاتوركية التي تجابه زعيم حزبها معه للتو في الانتخابات.
بالنسبة للسياسة الخارجية، كان أردوغان أكثر انطلاقاً في تحديد وإظهار توجهاته الأيديولوجية عندما هاجم منتدى دافوس وصندوق النقد الدولي، بكل ما يعنيان من قيم ليبرالية وأيديولوجية غربية، وهاجم الصحف الغربية الفرنسية والألمانية والبريطانية التي شنت عليه هجوماً في فترة الانتخابات التركية ومزجت بين نزعتيه: الإسلامية والتسلطية، ووضعته في”صف بوتين وشي جين بينغ وخامنئي”، وهو لم يخفي في ذلك المساء بأنه ينوي مع الرئيس الروسي تحويل منطقة تراقيا (القسم الأوروبي من تركيا) إلى مركز جغرافي لتوزيع الطاقة الروسية بفرعيها: الغاز والنفط على العالم وإلى القارة الأوروبية حيث أصبح هناك المنفذ الوحيد للغاز الروسي للأوروبيين بعد إغلاق المنفذ الأوكراني والمنفذ البلطيقي (نورد ستريم 1 ونورد ستريم2).
وفيما يتعلق بسوريا كان الرئيس التركي واضحاً بأنه ينوي إنشاء منطقة حزام أمني في الشمال السوري، شبيهة بجمهورية شمال قبرص أو بالحزام الأمني الذي أقامته إسرائيل في جنوب لبنان بين عامي 1982و2000، يقوم فيها بتوطين مليون و600 ألف لاجىء سوري في تركيا بتمويل قطري، في منطقة سورية قامت تركيا بتهجير كرد سوريين منها، وهو ما سيخلق مشكلة عربية- كردية مستقبلية كبرى، ويبدو أن الخلق التركي لهذه المشكلة مدروس في ظل المشكلة التركية- الكردية المشتعلة منذ عام 1925 في جمهورية أتاتورك، فيما لا يوجد شيء مماثل في سوريا من حيث النوع أو على الأقل في درجته، وهو مايعني بأن أردوغان لا ينوي مصالحة دمشق التي تصر على انسحاب عسكري تركي من الأراضي السورية كشرط مسبق للتطبيع مع أنقرة، وهو يستغل حاجة موسكو له في مراهنة منه على أنها بسبب تلك الحاجة الروسية لتركيا، والتي تتعلق بقضايا أبعد وخارج سوريا، ستقوم روسيا بوتين بإغماض عينيها تجاه خطط أردوغان في سوريا، تماماً مثلما فعلت منذ عام 2016، وليس من دون دلالة في هذا الإطار أن يقول بوتين في برقية التهنئة لأردوغان العبارة التالية: “فوزك يدل على دعم الشعب التركي لسياستك المستقلة”، وهو أمر أو شعور روسي يوجد سلبه أو صورته المعاكسة في واشنطن، فيما بالتأكيد يشاطر بوتين الرأي ذاك كلاً من الرئيس الصيني و”المرشد” الإيراني، وهو أمر بالغ الدلالة والتناقض أن يكون الحلفاء الأطلسيين في واشنطن بهذا الرأي السلبي تجاه أردوغان فيما خصوم (الناتو) لهم ذلك الرأي بقائد دولة هي عضو في الحلف الأطلسي.