آفاق التطبيع التركي السوري بعد فوز أردوغان

وجد اللاجئون السوريون أنفسهم “فرس الرهان” في صندوق الانتخابات التركي ومادة للتنافس الانتخابي خلال العامين الماضيين، حيث أُدخل الملف السوري في دهاليز الانتخابات التركية، ما تسبب بدفع السوريين لأثمان باهظة عبر تصريحات وتصرفات أقل ما يقال عنها أنها كانت “عنصرية” من قبل بعض أطراف المعارضة التركية، وقاسية ومجحفة من قبل الحكومة التركية الخاضعة للحزب الحاكم في تركيا، وتبرير أصحابها أنهم اضطروا لاتخاذ تلك الإجراءات لوقف غضب الشارع التركي ولسحب أوراق كانت مقلقة وتملكها المعارضة التركية.

إحدى أهم الأوراق التي طرحتها المعارضة التركية كان ملف التقارب مع نظام الأسد، والتطبيع معه، وإعادة اللاجئين السوريين، ووقف عمل المعارضة السورية على أراضيها. تناغم الروس، والرئيس بوتين تحديداً، مع ما طرحته المعارضة التركية، ووجدها فرصة للضغط على الرئيس أردوغان بحجة سحب ورقة من معارضيه، وبذات الوقت تصحيح مسار العلاقات الخارجية لتركيا التي بدأت بالسنوات الأخيرة بالعودة لسياسة “صفر مشاكل” التي طرحها وزير الخارجية التركي السابق “أحمد داؤد أوغلو”. استجاب أردوغان لمطالب بوتين، وعلى مدار العام الأخير بات السوريون ينامون ويستيقظون على تصريحات تركية جديدة صادرة عن الخارجية والرئاسة والدفاع تتحدث عن قرب اللقاء الذي يجمع أردوغان بالأسد، وقرب ترحيل اللاجئين (عودة طوعية)، بالمقابل كان هناك إحجام ورفض وشروط ذات أسقف مرتفعة وضعها نظام الأسد كثمن لأي تقارب تركي سوري، متمسكاً بأهداف خلبية ووهمية وخاصة فيما يتعلق بالسيادة الوطنية المخترقة بجيوش خمسة دول جاثمة على أراضيه، لكن حقيقة الرفض الأسدي ترتكز على واقعين: الأول يعود لإدراك بشار الأسد أن أي تقارب مع تركيا يعني البدء بالبحث عن حل سياسي، وأن أي حل سياسي حقيقي للقضية السورية سيشكل الخطوة الأولى في نهاية نظامه.

الواقع الثاني، أن هذا التطبيع غير مرض عنه إيرانياً, لأن إيران تريد أن تقبض ثمن التطبيع العربي مع الأسد أولاً, ومن ثم أن يكون التطبيع السوري_ التركي من بوابة طهران وليس عبر موسكو.

الضغوط زالت عن الرئيس التركي داخلياً وخارجياً؛ فالداخل ركن وأقر بنتائج الانتخابات وبفوز أردوغان، وتوقفت كل أوراق المعارضة الضاغطة وانتهت معها فترة قلقة عاشها حزب العدالة والتنمية وحكومته ورئيسه، وأيضاً عبارة الأسد التي ما فتئ يرددها “سننتظر لبعد نهاية الانتخابات لنحاور الفائز بصناديق الانتخابات التركية”، التي كان يغمز بها نظام الأسد للضغط على أردوغان وانتزاع تنازلات منه.  تراجعت أيضاً الضغوط الروسية والإيرانية التي مورست قبل الانتخابات، وبالتالي فإن من المتوقع أن يخف زخم التصريحات وزخم الاندفاعة التركية تجاه النظام والتي سادت المرحلة الأخيرة. كذلك كان هناك إجماع إقليمي وعربي وغربي، ألا خوف من أردوغان إن فاز في الانتخابات؛ فالرئيس التركي القادم (حيثما كان) سيكون أمامه ملفين ضاغطين ويستحوذان على جل اهتمام وعمل الحكومة، وهما ملف إزالة آثار الزلزال الذي ضرب تركيا بداية هذا العام، والآخر هو ملف الاقتصاد التركي الذي أقلق المواطنين الأتراك.

المراقب للإستراتيجية التركية في الملف السوري، والخاضعة للدولة العميقة، يجدها عبرت مرحلتان وتراوح بالثالثة حالياً. المرحلة الأولى تمثّلت في وقف إطلاق النار، والثانية في خفض التصعيد، أما الثالثة والتي تبحث عنها تركيا اليوم هي مرحلة التطبيع المترافقة مع مرحلة الاستقرار وعودة اللاجئين من تركيا للداخل السوري، إلا أن ملف التطبيع مع الأسد يحتاج إعادة تموضع من قبل الحكومة التركية وحسم خيارات وإغلاق ملفات، فملف شرق الفرات يحتاج لتفاهمات معمقة مع الجانب الأمريكي، وسياسة (احتدام المواقف) والمناكفة لم تعد مجدية ولا تصلح للمرحلة المقبلة، بل تحتم على وزارتي الخارجية والدفاع التركيتين الجلوس على طاولة التفاوض مع الأمريكان وطي هذا الملف نهائياً بما يخدم كلا الطرفين، خاصة بعد تأكيد خبر مفاده أن تركيا حصلت على تفويض روسي أسدي إيراني ببقاء قواتها العسكرية داخل سوريا لخمس سنوات، بغض النظر عن “جعجعات” نظام الأسد الخاضع للمشيئة الروسية الإيرانية.

أيضاً تُدرك تركيا أن مناورات موسكو حول الحل في سوريا محكومة بالفشل، وقد تقطف منها أنقرة فقط شروطاً تسهيلية لإعادة بعض اللاجئين من أراضيها، لكنها عاجزة عن إنتاج حل مستدام للقضية السورية، وأن ما قاله وزير الخارجية الأمريكية “بلينكن” مؤخراً  “نحن مصممون على إيجاد حل سياسي في سوريا يحفظ وحدة البلاد وسيادتها ويلبي طموحات شعبها ويتوافق مع القانون الدولي ويحترم المبادئ الأساسية لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254.”، ليرد عليه المدير العام للملف السوري في الخارجية التركية السفير كورهان كاراكوتش متناغماً بقوله: إن عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم لن تكون إلاَّ في نهاية العملية السياسية.

هذا الكلام يضع محددات للمناورة الروسية وللاندفاعة التركية في عملية التطبيع مع تركيا والحل في سوريا، بأن أوراق الحل الأساسية هي بيد واشنطن وخاصة ورقة ملف الإعمار، وبالتالي سيكون على أنقرة التخلي عن سياسة التموضع بين موسكو وواشنطن والانزياح كلية لأحد الأطراف، مع عدم معاداة الطرف الآخر، وإرسال أنقرة لـ”500″ جندي روسي كقوات حفظ سلام في “كوسوفو” بالرغم أنها خطوة تتبع لحلف النيتو، لكنها تأتي في إطار التقارب مع الغرب أيضاً.

والخارجية التركية تراقب عن كثب تجربة التطبيع العربي والموقف الأمريكي. هناك محددات قد وضعتها واشنطن بوجه العرب المطبعين مع الأسد وستكون مشهرة بوجه أنقرة أيضاً، حيث سُمح للعرب بالمناورة المحدودة مالياً ضمن سياسة “خطوة مقابل خطوة”،عبر تقديم بعض الأموال (المحدودة) للأسد من خلال ملفين هما ملف وقف إنتاج وزراعة وتصنيع وتهريب المخدرات، وملف المساعدات الإنسانية، وما عدا ذلك تبقى خطوط حمراء حذرت واشنطن العرب من تجاوزها، والموقف الأوربي المتناغم مع الموقف الأمريكي كان واضحاً وفسره السفير الألماني في القاهرة فرانك هارتمان في مؤتمر صحافي، بقوله: إن إلغاء الاجتماع الذي كان مقرراً في 20 حزيران/يونيو (بين الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية)، جاء بسبب رفض برلين الجلوس مع وفد النظام السوري المشارك في اللقاء من ضمن وفود الجامعة العربية وهي رسالة قوية للقادة العرب، وكان المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي بيتر ستانو قد أكد عقب قرار إعادة نظام الأسد للجامعة العربية، بأن الإتحاد لن يطبع العلاقات مع الأسد ولن يرفع العقوبات عن النظام، كما لن يتخلى عن الشعب السوري، مشدداً على أنه لا مشاركة للاتحاد في إعادة الإعمار قبل تحقيق الحل السياسي وفقاً لقرار مجلس الأمن 2254.

ما سبق يؤكد أن الحكومة التركية وبعد زوال الضغوط عنها قد تفرمل اندفاعة التطبيع مع الأسد، ومؤتمر أستانا القادم مؤشر على ذلك؛ فالاجتماع الرباعي المرافق سيكون لنواب وزراء الخارجية وليس الوزراء (بخطوة نحو الخلف)، أيضاً خوف وتردد الأسد من أي استحقاق للحل في سوريا سيبطئ عملية التطبيع، يضاف للأمر انشغال الروس عن سوريا بالملف الأوكراني، وملء إيران لهذا الفراغ سيجعل التطبيع أمراً غاية في الصعوبة ويخضع للمشيئة الإيرانية، يضاف لكل ما سبق وجود شخصية قوية على رأس هرم وزارة الخارجية التركية التي تدرك مفاصل الوضع الأمني والاستخباراتي، وباتت تحمل مهمة إدارة الملفات السياسية الخارجية لتركيا ما سيعطي ثقلاً تركياً لرجل مقرب من الغرب و وصف بأنه مهندس المصالحات التركية الأخيرة مع العرب وإسرائيل، وأنه كان الأقرب لتفاصيل الملف السوري.