تتوجت الجهود البشرية في بدايات القرن العشرين بنظرية الاشتراكية العلمية التي ما لبثت أن انتشرت على امتداد العالم بسرعة قياسية، فتدافعت الشعوب وخاصة الطبقات المسحوقة والفقيرة منها إلى استقبال هذه النظرية الجديدة وقتها وفتح كل الأبواب أمامها، معتقدة أنها البلسم الشافي لكل الأمراض الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والحصن الأخير للبشر التوّاقين إلى الحرية والمساواة وإزالة الفوارق الطبقية من خلال الانتقال إلى مجتمع منسجم وسعيد.
وهكذا كانت حال الشعوب المضطهدة أو التي أبقتها القوى الاستعمارية مجزأة ومشتتة، التي وجدت في اعتناق الإشتراكية خلاصاً أبدياً لها من خلال الشعار البرّاق “حق الشعوب في تقرير مصيرها” الذي تبنته هذه النظرية كمبدأ أساسي لها. وفي الوقت الذي بات شعار “الإسلام هو الحل” يتهلهل ويفقد قدرته على جذب النخب السياسية والثقافية، متحولا إلى أجندة تتبناها التنظيمات الراديكالية والجهادية الساعية إلى السلطة عن طريق العنف، كانت الأفكار الاشتراكية تنتشر بشكل أفقي وعمودي بين الطبقات والشعوب التي تعاني الأمرين جراء الأوضاع المزرية التي تعيشها. لذلك نجد أن الشعب الكردي بكل فئاته، والتعميم هنا لا يحتمل المبالغة، تفاعل مع هذه الأفكار اليسارية. ويمكننا تذكر الزخم الشعبي الكردي الكبير للحزب الشيوعي السوري حتى سبعينات القرن المنصرم، وتسابق الأحزاب والتنظيمات القومية الكردية على ما سمي وقتها بالالتزام بالنظرية الماركسية أو الاهتداء بها أو اعتناقها بالمطلق كنظرية “كلية القدرة”، وكحتمية تاريخية تنتظر شعوب العالم كلها، ومنها الشعب الكردي. وعليه، تم تأجيل حل كل القضايا القومية منها والاجتماعية، السياسية منها والاقتصادية، إلى ذلك اليوم الموعود، الذي يعتبر قدومه مسألة وقت لا أكثر.
وقضت أجيال عديدة أعمارها وهي تحلم بهذا العهد الاشتراكي المخملي الذي لا بد أن يأتي، وفق الحتمية التاريخية التي تنص عليها النظرية “العلمية”. وما حدث هو العكس تماماً، فقد انهارت المنظومة الاشتراكية ومعها أبراج الأوهام التي بنتها مخيلة هذه الطبقات والشعوب التائقة إلى الحرية.
وفيما يتعلق بسياسيي الأحزاب “الماركسية” الكردية، فقد استداروا على أنفسهم وهم ينفضون غبار تلك الأفكار عن أنفسهم وعن أحزابهم، وكأن شيئاً لم يكن. والملفت في هذا السياق هو أن التجربة السياسية الكردية في مجملها لم تقدم مثالاً واحداً يمكن احترامه في هذا السياق؛ فمن الطبيعي أن يدفع الفشل في أي مشروع سياسي إلى الاستقالة أو إلى إجراء نوع من أنواع النقد الذاتي، في حين نجد أن السياسيين الكرد استمروا في قيادة أحزابهم، رغم الانشقاقات المتتالية و التناقص المستمر في أعداد أعضائها، وانعدام أي دور مؤثر لها على الصعيدين السياسي والاجتماعي. وما لبثت أن لملمت تلك الأحزاب نفسها، حتى خلعت ثوب الإشتراكية المهلهل عن أجسادها المنهكة، وأتت بثوب آخر، مخملي، جميل، ساحر، دواء لكل داء، حل لكل المشكلات، هو ثوب الديمقراطية. فباتت تفطر على الديمقراطية، تتغذى على الديمقراطية، تتعشى على مقبلاتها، وتنام حالمة بالديمقراطية. ويتوجب تأجيل جميع القضايا العالقة والمشاكل العويصة إلى اليوم الذي ستتحقق فيه الديمقراطية وستنحل جميع القضايا تلقائياً. وهكذا تناوبت المعارضات والأنظمة على الإشادة بالديمقراطية، والطرفان يمارسان القتل بالجملة في سبيل الوصول إلى النتيجة السحرية نفسها وهي الديمقراطية.
أكد رئيس النظام بأن المسألة الكردية خارجة عن إرادته و لا يمكن حلها إلا عن طريق الديمقراطية، فهي مسألة شعب وبرلمان ويتوجب أن يقرر الشعب السوري بمجمله مصير مكوناته. وتؤكد المعارضة بأنه لا يمكن حل المشكلة الكردية إلا عن طريق استفتاء شعبي، علينا أن ننتظر حتى يسقط النظام ونقيم نظاماً ديمقراطياً، ومن خلال الديمقراطية والتي هي خضوع الأقلية للأغلبية، يمكن حل جميع القضايا ومنها ما تسمى القضية الكردية. ومن المفارقة أن تعزف بعض الأحزاب الكردية المعزوفة نفسها، الديمقراطية هي الحل.
في هذا السياق سأنهي هذا المقال بتجربة شخصية طريفة مررت بها في السنة الأولى من قدومي إلى حلب لدراسة الحقوق في جامعتها. وقد أقنعني الأصدقاء القدماء في الجامعة لحضور المؤتمر الطلابي واستغلال فسحة مناقشة التقرير السياسي أثناء جلسة المؤتمر لطرح القضية الكردية وخاصة قضية الكرد المحرومين من الجنسية أو ما يسمونهم “أجانب محافظة الحسكة”. وأخذتني الحماسة وأمام ما يقارب الخمسمائة طالب، حملت المايكرفون وبدأت الحديث، فهم مدير الجلسة مقصدي على الفور، ومنعني من الكلام طالباً مني الكف عن الحديث والعودة إلى مكاني. أكدت له على أن الديمقراطية تقتضي سماع الرأي الآخر، وأن كل ما أسعى إليه هو أن أعبّر عن رأيي هنا. وافق مدير الجلسة على الاحتكام إلى الديمقراطية، ووعدني بالتزامه برأي الأغلبية، وطلب التصويت على استمراري في الحديث أو منعي منه. وكانت النتيجة أن صوت أكثر من أربعمائة وخمسين طالباً من أصل خمسمائة لصالح منعي من الحديث وعودتي إلى مكاني على الفور. منذ ذلك اليوم الذي أغلقت فيه الديمقراطية فمي مرغماً، علمت بأنها في هذه البلاد لم ولن تكون حلاً على الإطلاق.