التطبيع العربي مع دمشق.. أن تصل متأخراً دائماً

ربما كان سؤال الصحفية السورية ربا الحجلي، مذيعة قناة الإخبارية الحكومية السورية، لأمين عام الجامعة العربية أحمد أبو الغيط التعبير الأكثر صدقاً عن موقف الشارع السوري والعربي بكل أطيافه فيما يتعلق بالقمم العربية، إذ إن لا قيمة فعلية لهذه القمم منذ انطلاقتها قبل سبعين عاماً ولا إنجاز يذكر لها، مهما كثرت الأقلام المدبجة لأهميتها وضرورتها كما قال أبو الغيط في رده على سؤال ربا، والكل يذكر ماحدث خلال غزو العراق للكويت قبل ما يزيد عن الثلاثين عاماً.

موقف ربا أكثر صدقاً أيضاً من موقف النظام السوري في استعجاله الوصول إلى الكرسي السوري في القمة العربية، الذي عطّلته المعارضة الفاشلة سنوات طويلة، خلافاً لكثير من تصريحات سياسيي النظام السابقة التي قللت وسخرت من أهمية الجامعة ودورها في السياق السياسي العربي.

وإذا كان صحيحاً، وهو كذلك على الأرجح، أن تلك الاسئلة المكثفة التي أطلقتها الحجلي لمدة ثلاث دقائق متواصلة، كتبتها لها جهة عليا (أمنية أو بعثية)؛ فإن هذا قد يشير بشكل ما إلى أن هناك شخصيات أو مؤسسات في قلب النظام السوري لا تتفق مع الرئاسة السورية في استعجالها توجهها العربي الحالي، بعد اتهامات، ليست دون دلائل، من النظام لهذه الجهات العربية بلعب دور تخريبي في الأزمة السورية منذ اثني عشر عاماً، لم تطوَ حتى الآن صفحات خلاف دامٍ أورث السوريين المنافي والجوع والسجون.

موقف السوريين الموالين لدمشق يتبدّى غير مبالٍ بالعودة، وإن كانت السلطة قد دفعت بعض هؤلاء للتعبير عن فرحهم بعودة “الجامعة العربية إلى دمشق”، أو أنهم لوحدهم من قام بذلك، فإن هذا التطبيع ليس ذو قيمة ووجوده من عدمه سيان؛ فحدود التطبيع الإقليمية والدولية لن تمنح السوريين نهاية سعيدة لمأساتهم المستمرة بفضل العرب قبل غيرهم. وليس حتمياً أن يكون التطبيع مفيداً  للسوريين خارج رمزية عودة النظام السياسي السوري إلى المجال السياسي الدولي أو العربي، نتذكر هنا أن دولاً عربية وخليجية لم تستقبل سوى أعداد قليلة من اللاجئين، وشاركت بفعالية في حصار البلاد والعباد على كل المستويات، ويتفق مع الموالين لدمشق القوى الكردية التي لديها همومها الأكثر أهمية من التطبيع مع ترحيب فاتر بهذا التطبيع، كان صالح مسلم رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي قد أظهره في حوار مع مجلة المجلة السعودية قبل أيام.

ينبع الموقف الشعبي اللامبالي على الجهات المختلفة من عدة نقاط، فهو للجميع غير مفاجئ، إذ لم ينقطع التواصل العربي مع دمشق رغم استبعادها من محفل الجامعة العربية لا من قبل دول الجوار (الأردن ولبنان والعراق) ولا من دول الخليج العربي عبر البوابة الإماراتية، ولا مغاربياً من البوابتين الجزائرية والتونسية، ولا حتى من قبل جهات إقليمية مثل تركيا التي لم ينقطع تواصلها الاستخباراتي مع دمشق، ولم يترك هذا التواصل المخفي والمعلن أي أثر على حياة السوريين سوى مزيد من العذاب.

يتذكر السوريون جميعاً أن حضور العرب في أزماتهم جاء من باب الاصطفاف مع فريق ضد بقية الفرقاء، وأنهم من موّل ويموّل التنظيمات العسكرية بأنواعها على الأرض السورية حتى الآن، فكيف فجأة تخلى “أشقاء الثورة” عن أحلامهم بنشر الديمقراطية والحرية في بلاد الشام؟ ذاك ما لم يستوعبه “الثوار” من أنّ فاقد الشيء لا يعطيه مهما نظّر لهم “عزمي بشارة” عن الضرورة الثورية للتغيير في بلاد لديها قوى تغيير حقيقية تكالب عليها الجميع وحولوها إلى الهوامش.

عندما كانت العرب حاضرة في الأزمة السورية لم يؤثر حضورهم إلّا بإذكاء نار الخلافات السورية الداخلية عبر شدّ هذا الطرف أو ذاك لجهتهم، إنضواءً تحت تأثير قوى إقليمية كبرى حرّكت هي الأخرى القوى المحلية (المدنية والعسكرية) وحوّلتها الى دمى لا قيمة لها ولا وزن، من “المجلس الوطني للثورة” إلى “الائتلاف” الى آخر الطبخات المعارضة، في وقت كان فيه النظام يلعب في ساحة التناقضات تلك بمهارة السياسي الأمني الخبير متمكناً من إزاحتها من المشهد تدريجياً حتى باتت بلا قيمة على الأرض أو في السياسة.

 وهذه القوى المهملة الآن هي من يعلن دون كثير فائدة، أنه ضد التطبيع مع دمشق، بشكل أساسي عبر بقية عناصر قوتها، المنصات الإعلامية، التي يبدو أنها في طريقها إلى الإغلاق المتوقع قياساً بالتجربة التركية مع مصر، فما إن تحسّنت العلاقات الثنائية بين البلدين حتى اختفت منصات المعارضة المصرية من الوجود في تركيا وليس الإخوانية منها فقط، وهو ما سيحدث مع المؤسسات التي ترعاها قطر قريباً.

قد تكون ضربة التطبيع الأكبر هي لبقية تلك القوى المهملة، العسكرية والمدنية، التي وجدت سابقاً في تلك الدول أشقاء للثورة، وهي التي تتحسس من كلمة “الثورة” بكل أشكالها ليستقيم أخيراً أن منطق الدعم ذاك كان مرتبطاً بحسابات سياسية واقتصادية، وبعض منه لمجرد النكاية فقط، أكثر منه ارتباطاً بقضايا السوريين في الحرية والكرامة.

بالطبع ليس صعباً إدراك أن الانفتاح العربي على دمشق، الخليجي، والسعودي تحديداً، باعتباره المفتاح الأهم حالياً في السياق السوري، هو محاولة أخيرة لتحجيم (أو التصالح ؟) مع الوجود الإيراني في سوريا مثل ما كان التحول السعودي الصاعق نحو طهران طريقة ذكية في تسكين الصراعات التي تشارك فيها السعودية في المنطقة مع إيران، تبعاً للنهج السعودي الجديد المتمثّل بسياسة “صفر مشاكل” مع العالم المحيط بناء على نصيحة صينية ثمينة، والأدلة على ذلك كثيرة تتضح في التغيرات التي تشهدها المملكة في وقتها الراهن.

البيان الختامي للقمة كان بياناً أقل من العادي، وفي تعاطيه مع الشأن السوري بدا أقرب الى المنطق الدولي الذي يطلب دائماً تنفيذ القرار 2254 مع التركيز العربي على الجانب الإنساني، وهي البوابة الوحيدة التي يمكن للعرب النفاذ منها إلى دمشق وسط المراقبة الأميركية والأوروبية اللصيقة لدمشق وتحركاتها، ووفقاً لوزير الخارجية السوري فيصل المقداد فإن دمشق موافقة أخيراً على البدء بتنفيذ القرار الدولي 2254 في حوار له مع قناة روسيا اليوم قبل أيام رغم الشكوك الكبيرة في ذلك.

وعليه، الكرة الآن فعلياً هي في ملعب دمشق المتعنّتة إلى درجة كبيرة، فيما السؤال هل يتخلى الأسد عن أصدقاء المحنة (الإيرانيين) ليقطف أعداء الأمس (أشقاء اليوم) نتائج ما يقول النظام أنه “صمود ” اثني عشرعاماً؟ لا نستبعد إيجاد ترتيبة بين الرياض وطهران بموافقة دمشق للوصول إلى شبه استقرار في المرحلة القادمة مع التخلص التدريجي من مشاكل مناطق المعارضة المسلحة في إدلب، ليبقى سؤال مناطق الإدارة الذاتية هو السؤال الفيصل في مستقبل الأزمة السورية القريب.