تداعيات فوز أردوغان على شمال شرقي سوريا

بفوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بولاية ثالثة، طويت صفحة التوقّعات التي تنتظر شمال شرقي سوريا، أو بتعبير مباشر: بدأ الجدّ، ذلك أن فترة الراحة، التي تمتّعت بها مناطق الإدارة الذاتية التي يمكن حساب موعد سريانها منذ ليلة كارثة زلزال 6 شباط/فبراير وإلى اليوم، قد انتهت. وعليه فقد بدأ العدّ التنازلي لأن تعود السياسة الرسمية التركية إلى اعتبار شمال شرقي سوريا، والكرد على وجه التحديد، كيس الشرور الذي يجب التخلّص منه إما تهديداً بمواصلة الاحتلال، أو بالعودة إلى استخدام الطيران المسيّر وتحريك مليشيات المعارضة السورية المرتهنة لها ضرباً لاستقرار مناطق الإدارة.

ولتركيا سياسة جديدة في سوريا بدأت ملامحها في الوضوح مع بدء اللقاءات الأمنية- الدبلوماسية نهاية العام الفائت بين أنقرة ودمشق برعاية موسكو، والجديد في ذلك هو اعتراف أردوغان بنظام دمشق، بمعزل عما سينتهي إليه التطبيع، إلّا أن هذا المسار الصعب لا يمكن أن يقود إلى سلامٍ دافئ دون تحقيق الشروط التركية المتمثّلة بمحاربة قوات سوريا الديمقراطية، ودون تنفيذ شرطي دمشق الثابتين: الانسحاب من الأراضي السورية والتوقّف عن دعم المعارضة المسلّحة. ما يعني أن شروط الطرفين لا يمكن أن تلتقيا في منتصف الطريق حتى. 

كان ملف اللاجئين ضاغطاً على حكومة أردوغان قبيل الانتخابات، لكن يبدو أن ثقل الملف تراجع بعد أن كشف الرئيس التركي، مع تمكّنه من الفوز، بأنه سيعيد نحو مليون سوري إلى الداخل، أي المناطق التي تسيطر عليها تركيا، دون الأخذ بالإعتبار أن مثل هكذا “إعادة” لن تكون آمنة وطوعية على ما قالته الأدبيات الأممية، وهو لن يكون على أساس إعادة السوريين إلى مناطق سكناهم الأصلية. عملياً سيكون الإقدام على هكذا خطوة أقرب لعملية “طرد حلال” للاجئين، عكس الطرد الذي سعت إليه المعارضة التركية، إلّا أنهما متشابهين في المآل، بفارق أن سعي حكومة أردوغان منصبّ على التغيير الديمغرافي وإعادة تركيب الشمال السوري وفقاً للهواجس الأمنية التركية وإقامة دويلة شبيهة بتلك التي أقيمت شمال قبرص.

يبدو أن إقامة تجمعات سكنية تأوي مئات آلاف اللاجئين مستحيلة بالنظر إلى مسألتين: ضعف الإمكانيات المالية التركية حتى وإن تلقّى أردوغان الدعم المالي من أصدقائه والجمعيات الإسلامية، والأهم من ذلك اعتراض دمشق وإيران على مشاريع التغيير الحادة تلك، والتي تعني للنظام السوري تعطيل ورقة إعادة الإعمار التي يسعى أن تكون من خلاله وتحت تصرّفه، بالتالي فإن طرح أردوغان لهكذا تصوّرات إنما يريد أن يخفف من غضب الشارع التركي المتنامي تجاه اللاجئين، وكذلك لأجل أن يوحي لدمشق بأنه يمتلك البدائل عن الإعادة عبر قناة التفاوض معها.

قد لا يحدث تبدّل نوعي في سياسة تركيا في الملف السوري ليستمر الاستنقاع السياسي والعسكري في شمالي سوريا طيلة مدة حكم الرئيس التركي الحالي، لكن ما هي الخيارات التي يمكن للإدارة الذاتية انتهاجها في سبيل التخفيف من الآثار المؤذية للسياسة التركية عليها؟ يمكن في هذا الصدد القول بأن مياهاً كثيرة جرت تحت الجسر منذ أن استعر التنافس الانتخابي في تركيا، فالنظام السوري استعاد مقعده في الجامعة العربية بعد عملية تطبيع عربية قادتها السعودية والإمارات، بالتالي فإن الحضور العربي في الشأن السوري بات أكثر وضوحاً ما قد يعني أن كل خطوة تصعيد تركيّة ستجابه بموقف عربي موحّد، وأن كل اعتداء تركي قد يقودها للاصطدام بالموقف والقرارات العربية، وهو الأمر الذي شجّع الإدارة الذاتية لإطلاق في 18 نيسان/أبريل الماضي مبادرة لحل الأزمة السورية عوّلت فيها على الدور العربي تحوّطاً لبقاء أردوغان وحكومة الحرب التركية في السلطة، ولعل التقريب بين دمشق والإدارة الذاتية عبر الحوار بات ممكناً في ظل رغبة عربية/خليجية في تسريع مسار الحل السياسي السوري، وجهوزية الإدارة لقبول شكل من أشكال الحل مع دمشق قد يعني في مكانٍ ما أن الدول العربية ستهتم لاستقرار شمال شرقي سوريا أيضاً، وهو ما لا يتعارض مع الجهود الأمريكية في استقرار تلك المناطق التي ما زالت قواتها (قسد) في حلف وظيفي مع واشنطن في ملف محاربة داعش.

صحيح أن تركيا تعاني من أزمة اقتصادية واجتماعية هي في الأصل من صنع الحكومة المنتخبة مجدداً، إلّا أن أزماتها مهما تفاقمت لن تحول دون تخفيف نزعتها العدوانية تجاه الإدارة الذاتية، لكن تركيا المأزومة قد تقف أمام معضلة نمت حديثاً في طريقها، وهي أن الحرب على شمال شرقي سوريا وما قد يتسبب في إغضاب دول عربية، لاسيما السعودية التي ضخّت قبل أشهر قليلة من موعد الانتخابات 5 مليار دولار في البنك المركزي التركي، والحال أن المملكة باتت موجود ومؤثرة على في الداخلين، التركي والسوري، هذا التوازن قد يساهم في إبطال الحروب الكبيرة التي تصرّ عليها تركيا، لكنه لن يوقف تهديدات أنقرة. يمكن تلمّس وعيد أردوغان من خطاب الشرفة ليلة فوزه بالانتخابات ومطالبة الجموع بإعدام سلو (هو لقب شعبي يطلقه محبي القيادي الكردي صلاح ديمرطاش عليه) وتلويح الرئيس التركي بالحرب على “الإرهابيين”، ولأن تصنيف معظم الكرد السوريين بأنهم إما “إرهابيون” أو “داعمون للإرهاب” أو يضمرون محبة “للإرهابيين” فإن ما بين السطور في خطاب الشرفة يكشف عن رغبة انتقام مريعة قد تطاول كرد سوريا كذلك.

لأجل ذلك، أمام الإدارة الذاتية طريق طويلة للتصدي لموجات من التهديدات والصراخ التركي المتواصل، ولعل أوّل تدبير سياسي مناسب قد يكون الإبقاء على مبادرة حل الأزمة السورية التي أطلقتها الإدارة وتطويرها وتوسيع دائرة المؤمنين بالحل الداخلي السوري، وتأييد الحلول العربية التي تأخذ بالاعتبار استقرار سوريا، ومفيد التذكير بأن الإدارة الأمريكية ماتزال تعارض الطموحات التركية في شمال شرقي سوريا، أقلّه في المدى القريب والمتوسّط، وهو ما يمنح الإدارة الذاتية وقتاً مناسباً للوصول إلى تسويات سياسية مع دمشق، ذلك أن المفاضلة القائمة باتت على النحو التالي: الذهاب إلى تفاوض مع دمشق وما يتطلّبه ذلك من تنازلات معيّنة، أو البقاء على الحالة القائمة والتعايش مع التهديدات التركية المستمرّة. وأما المحتمل، أو ربما الأكيد في كل ذلك، أن الكرد هم أكثر من يستخدم المفاضلات في خياراتهم السياسية الضيّقة، إذ طالما يخيّرون أو يختارون ما بين السيئ والأسوأ، هذا يجعل السياسة مكلفة ومتعبة على الدوام، لكنها ضرورية كذلك.