أربيل – نورث برس
ما بين مقرب من مصالح موسكو وحليف قاسٍ مؤخراً مع الغرب، ترسم تركيا في ظل اقتصاد منهار ونظام الرجل الواحد، خارطة سياسية جديدة لخمسة سنوات أخرى تحت قبضة الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان.
أردوغان (69 عاماً)، يجلس مجدداً ولمدة خمسة سنوات لاحقة، على كرسي الرئاسة التركية، وبالتالي يحكم قبضته على مؤسسات الدولة التي كثرت عنها التحليلات السياسية فيما يتعلق بسياساتها الخارجية المثيرة للجدل والوضع الداخلي المتدهور ولا سيما على المستوى الاقتصادي.
وأحرز أردوغان في جولة الإعادة أمس، فوزاً صعباً بنسبة 52.5% على زعيم كتلة المعارضة رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو، وهو كان مرشحاً للفوز وفقاً لاستطلاعات الرأي ما قبل الانتخابات، وهذا ما دفع للحديث بشكل مكثف عن استخدام أردوغان لموارد السلطة في حملته من أجل البقاء في الحكم.
وأظهرت نتائج انتخابات إلى حد ما، انقسام أصوات المرشّح الخاسر في الجولة الأولى سنان أوغان، والتي بلغت 5.2% في الدورة الأولى، مناصفةً بين المرشّحَين.
وهذا ما خلق استقطاباً حاداً بين النزعتين المحافِظة والعلمانية، وكذلك القومية والكردية، لتبين النتائج أن الأتراك بنسبة تزيد عن الـ60% مالت إلى النزعة المحافظة والقومية المتشدّدة بالرغم من الظروف التي تركها حكم أردوغان في شتى القطاعات الاقتصادية والسياسية والإعلام والقضاء.
وبينما استغل كليجدار أوغلو الواقع الاقتصادي بالدرجة الأولى، حيث هبطت الليرة التركية إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق، وانخفضت مستويات المعيشة بشكل كبير، ركز أردوغان على مزاعم جعل بلاده قطباً صناعياً وسياسياً مستقلاً، منتقداً بشدة سياسة الغرب وبدا أكثر تقرباً من المصالح الروسية.
واعتباراً من أولى أيام أردوغان في ولايته الجديدة، تركّز وسائل الإعلام ومراكز البحوث على ما سيشهده البلد من سياسيات على المستويين الداخلي والخارجي، ومدى تأثير ولاية جديدة له على الواقع المعيشي والعلاقات مع الدول في الشرق الأوسط، خاصة بعد ظهور مساعٍ صينية – روسية لتكوين عالم متعدد الأقطاب حسب وصفهما.
داخلياً
سيواصل الرئيس التركي المضي في مسار عكسي من الوعود التي قدمتها المعارضة في الشأن الاقتصادي والسياسية الداخلية ونظام الحكم، ما يعني المزيد من التحكم بقرار البرلمان والعقيدة الاقتصادية والتشريعات.
وكانت المعارضة تقول إن أول ما ستقوم به إذا فازت، هو إلغاء العديد من تشريعات أردوغان، أي العودة إلى النظام البرلماني الذي تحول في عام 2018 إلى نظام رئاسي “مستبد”.
ويشكل كتلة حزب أردوغان( العدالة والتنمية) وحليفه القومي اليميني، أغلبية مريحة في البرلمان، ما يعني أن النظام الدستوري الحالي لن يطرأ عليه تغييراً.
ويتخوف التيّار العلماني الذي يقوده أحفاد مصطفى أتاتورك، من أن يعزز أردوغان سلطته في سنوات إضافية، ليمارس حملة إزالة تدريجية لصورة أتاتورك من الدولة، يقابلها زخم في النزعتين الدينية والقومية المتطرفة، خصوصاً أن انتصار أردوغان يصادف الذكرى المئوية لإعلان الجمهورية التركية.
لكنه قد يواجه في المرحلة نفسها، ضغطاً لتعديل سياسته الاقتصادية، باعتبارها كانت المفتاح الأبرز بيد معارضته، نتيجة تدني مستوى المعيشة وحالة التضخم في البلاد.
وخلال فترة حكمه، زعم أردوغان أن أسعار الفائدة المرتفعة هي سبب التضخم، وليس العكس، في تحد للنظريات الاقتصادية التقليدية. وسبق وأن وصف أسعار الفائدة المرتفعة بأنها “العدو الأكبر” فقام بتوجيه البنك المركزي التركي بتخفيض سعر الفائدة تدريجياً، لكنه لم يحرز نجاحاً في القطاع.
ومن المستبعد أن تتمكن الحكومة المقبلة من الإيفاء بالوعود التي قدمها أردوغان بشكلها المعلن، والتي وصفها في أكثر من مناسبة أنها استراتيجية كـ “الأسلحة الثقيلة والطائرات، وتشييد مشاريع عملاقة تتضمن مشاريع اكتشاف الغاز وإطلاق أقمار صناعية (..)” في ظاهرة تعكس “استقلالية الأمة التركية” بحسب وصف أردوغان.
أمنياً
أما على الصعيد الأمني، تشير المعطيات أن أردوغان سيسير على خطاه في قمع المعارضة وخاصة الكردية بداعي “تهديد الأمن القومي”، وقد تصل لمستويات انتقامية إلى حد ما.
ووقف حزب الشعوب الديمقراطي الذي كان أمام خيارات صعبة، مع كليجدار أوغلو، على أمل أن يحصل على فرصة هدوء، وبالتالي إمكانية العودة إلى ممارسة السياسة بزخم، والتخلص من القيود التي فرضتها حكومة أردوغان عليهم.
وسيبقى الملف الكردي على رأس جدول أعمال أردوغان في مؤسساته الأمنية، لإبقائه تحت صفة “الانفصالية والإرهاب” حيث استغل هذا الملف بشكل مكثف في كسب أصوات القوميين شملت أحزاب وحركات يمينة جديدة بما فيها التي انضمت إلى تحالف كليجدار أوغلو كالحزب الجيد بقيادة ميرال أكشنار.
السياسية الخارجية
يعد فوز أردوغان مؤشراً على استمرار السياسات الحالية حيث تتجه الأنظار إلى معرفة مواقف الغرب تحت الطاولات وليس المعلنة منها، باعتبار أنه من الطبيعي أن يستمر التعامل الغربي مع الرئيس الحالي رغم الانتقادات الكبيرة، وهي سياسية معروفة لدى الدول لتشكيل ضغط ناعم لتسيير المصالح بدلاً من المواجهة المباشرة.
وهذه الاستراتيجية في التعامل تستبعد احتمال من أن تمارس الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية سياسة معادية بشكل مباشر تجاه الرئيس التركي، سوى أن أنقرة ستنتهج خطاباً أكثر شدة واستفزازية لا سيما أنها متورطة بعقود واتفاقيات مع روسيا بالرغم من كونها عضواً في الحلف الأطلسي.
ويبقى من المرجح أن تؤدي الزعامة الفردية ذات الطابع الديني القومي، إلى المزيد الاحتكاكات بين تركيا وحلفائها الغربيين، كلما طالت مدة بقائه في السلطة.
أما العواقب المحتملة لانتصار أردوغان، على المستوى الأوروبي، تتمثل برفع مستوى الدعوات لإنهاء عملية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي رسمياً، والتي هي في تجميد منذ سنوات.
ومن المحتمل أيضاً تصاعد التوترات بين تركيا واليونان، إضافة إلى توتر مع الولايات المتحدة وأوروبا بشأن علاقات تركيا مع روسيا، لا سيما في سياق الحرب في أوكرانيا.
ولا يستبعد أيضاً المزيد من التوتر بسبب حق النقض ضد انضمام السويد إلى الناتو.
في المقابل، ثمة تعزيز واضح في العلاقة بين تركيا وكل من روسيا وإيران، اللتين اتخذتا مواقف واضحة داعمة لأردوغان، لا سيما أن بينهما اتفاقيات مشتركة في ما يخص الشأن السوري لحله في مسار بعيد عن المسار الغربي الذي يرفض التطبيع مع دمشق قبل البدء بتسوية سياسية شاملة.
ولم تتضح سياسية الرئيس التركي الجديدة تجاه سوريا، وما إذا كان مستعداً للتجاوب مع الضغوط الروسية والإيرانية لتسهيل الوصول إلى حل للمشكلات القائمة مع دمشق من بينها سحب قواته من سوريا.
وإذ يعول البعض وخاصة الفصائل السورية الموالية لتركيا أن ما قام به قبل الانتخابات قد تكون مجرد وسائل دعائية وخاصة ما يتعلق بملف اللاجئين والتطبيع، فأن أكثر الاحتمالات الواردة لاستكمال مسار التطبيع هو صبها في نهج مواجهة الإدارة الذاتية بشمال شرقي سوريا عبر صفقات أمنية وسياسية مع دمشق.