استثمر الرئيس التركي والإعلام الموالي له تركياً وعربياً واقعة انتقال المنافسة الرئاسية إلى الجولة الثانية لتقديمها كدليل على ديمقراطية النظام السياسي الذي أنشأه على مدى السنوات الأخيرة في البلاد، وعززه بالتحوّل إلى نظام الحكم الرئاسي بصلاحيات دستورية واسعة جعلت منه رئيساً “فوق العادة”، ناهيك عن تلك المفروضة في الممارسة العملية بحكم الأمر الواقع.
وهكذا؛ فقد ردّ رجب طيب أردغان ،عبر قناة سي إن إن الأمريكية في المقابلة التي أجراها بأفضلية سيكولوجية نالها جراء تصدّره للجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، الصاع لسيد البيت الأبيض، جو بايدن، الذي وصفه في وقت سابق بالمستبد سائلاً محاورته: “هل يمكن لشخص يذهب إلى الجولة الثانية من الانتخابات أن يكون دكتاتوراً؟
للوهلة الأولى يبدو الاستفسار والجواب المأمول من طرحه منطقياً لجهة إثبات ديمقراطية النظام السياسي التركي ورأسه، لكن الخوض في تفاصيل المشهد السياسي والاقتصادي والديناميات التي تحكم المجتمع التركي متعدد الانتماءات العرقية والدينية والإيديولوجية سيكشف التناقض بين الطرح السابق والواقع السائد في تركيا.
بمعنى آخر، دعونا نطرح سؤال أردوغان بطريقة معكوسة ليصبح: هل تبرئ الانتخابات الفائز من صفة الديكتاتورية؟ وهل الانتخابات مؤشر دامغ على الديمقراطية؟ وهل كل عملية تصويت دليل على وجود انتخابات ديمقراطية؟ ويمكن إضافة عشرات الأسئلة المماثلة التي تبدأ بـ “هل” ولا تنتهي إجاباتها بخيار أو احتمالين فقط.
دعوني أبدأ من المصطلح الذي أطلقه الكاتب شورش دوريش في مقال له في نورث برس حول شكل النظام السياسي التركي الذي وصفه بـ “الصندوقراطي”، وهو تعبير دقيق للحالة السياسية التركية، القديمة منها والحديثة، إذ تعرّفت الجمهورية التركية على مدى قرن من عمرها على النظام الانتخابي والديمقراطية الانتخابية، لكنها لم تنجح طوال هذه الفترة في تحويل صندوقراطيّتها إلى ديمقراطية سياسية بالمعنى العام لمصطلح الديمقراطية الواسع.
وعليه؛ فوصف الصندوقراطية لا ينطبق على عهد العدالة والتنمية فقط، بل يمكن القول إن العقد الأول من فترة حكم الحزب الذي أريد له أن يكون نموذجاً للإسلام السياسي المقولب بالقيم الليبرالية سياسياً واقتصادياً كان الأقرب لعملية التحوّل الديمقراطي، مقارنة بالفترات التي سبقتها، حين كانت نتائج الصندوق مؤثرة إلى حد كبير في السياسات الاقتصادية فقط، مقابل بقاء السياسة الخارجية ومناهج الهندسة الإجتماعية تحت وصاية المؤسسة العسكرية، صاحبة الحق في تحديد نوع ولون الفرقاء السياسيين المسموح لهم أصلاً بخوض السباق الانتخابي.
من هذا المنطلق، يحقّ لمؤيدي الإسلام السياسي في تركيا وخارجها التباهي بالهامش الكبير الذي أتاحه حزب العدالة والتنمية لخصومه في ممارسة العمل السياسي في السنوات العشر الأولى من حكمه، مقارنة مع الفترات اللاحقة، التي زخرت بقرارات إغلاق الأحزاب ذات الصبغة الكردية أو الإسلامية، قبل أن يعود ويترفّع عن المنافسة السياسية متحوّلاً إلى جهة وصائية شبيهة بالمؤسسة العسكرية في القرن الماضي مع اختلاف المبرر الإيديولوجي الذي انتقل من صون علمانية البلاد إلى حماية إسلاميّتها.
بعد إحكام سيطرته، نجح الرئيس التركي في تأسيس نظام سياسي قائم على الزبائنية “Clientelism” مدعّم برأسمالية المحاسيب “Crony capitalism” اقتصادياً، كضامنين لاستمرار فوزه الصندوقراطي الذي سيؤمّن له بدوره الحد الأدنى من المظاهر الديمقراطية الكافية لتفادي الانتقادات الغربية اللاذعة لنظام “الرجل الواحد” السائد في تركيا اليوم.
على الرغم من أهميّة عاملي الدين والأمن القومي، الذين استغلّهما الرئيس التركي إلى أقصى حد خلال حملته الدعائية لانتخابات أيار (مايو) 2023، إلا أن تهميش دور المنظومة السياسية والاقتصادية الأردوغانية في تأمين التفوق البرلماني له في الانتخابات النيابية، ونقله إلى الجولة الثانية، أو حتى حسمه للانتخابات الرئاسية، سيؤدي إلى قراءات خاطئة للمشهد الداخلي التركي وبالتالي إلى نتائج خاطئة في التقييم السياسي لتركيا داخلياً وخارجياً.
فإلى جانب الحريصين على التصويت لأردوغان دفاعاً عن الإسلام “ضد الكفّار وناشري الشذوذ” وحماية البلاد وأمنها من الخصوم “المدعومين من قبل الإرهابيين والانفصاليين”، ثمّة جيش من الناخبين غير المقتنعين، بل وحتى غير الآبهين أحياناً، بكلا المعيارين، يصوّت للرئيس التركي على أرضية مصلحية بحتة.
يشكّل الكارتيل الاقتصادي المكون من خمسة شركات كبرى، تسميها المعارضة “بالعصابة الخماسية”، العصب المغذّي لمنظومة الزبائنية والمحسوبية التي أنشأها الرئيس التركي، في معادلة قائمة على مبدأ الربح المتبادل “Win-Win” بين السلطة ورجال الأعمال الذين يتنافسون فيما بينهم ضمن حلقة اقتصادية مغلقة أمام الراغبين بدخول السوق من خارج هذا الكارتيل بفعل سلطة الدولة التي تتكفل بمهمة حرمان هؤلاء الدخلاء من إمكانيات الحصول على القروض أو المناقصات في كل من القطاعين الحكومي والخاص داخل تركيا وخارجها في الدول الحليفة كأذربيجان وقطر وليبيا وروسيا وشمال سوريا والعراق وغيرها من المناطق.
بالمقابل، يغذّي الكارتيل المذكور جيش الأكاديميين والكتاب والصحفيين العاملين في القنوات التلفزيونية والإذاعات والصحف المطبوعة والمواقع والمنصّات الإلكترونية المملوكة من قبله، ويسهّل من عمل إنتقاء السلطة لبيروقراطييها على قاعدة الولاء، لا الكفاءة، ليتحوّلوا إلى منظومة سياسية-إقتصادية متكاملة ولدت في الأصل على قاعدة “العلاقة والسبب” بتسلسل هرمي يترأسه أردوغان، وتتدرّج بعده الفئات الأخرى من رجال الأعمال المرتبط بقائهم باستمرار حكمه، الذي يعتبر ضمانة أيضاً لاستمرار عمل البيروقراطيين الأوفياء غير الأكفاء، والصحفيين المكلّفين بإقناع “العوام” بنظريات الدفاع عن الدين والبلاد خلف قيادة الرئيس التركي “الوطني المؤمن”.
قصارى القول، بغض النظر عن هيمنة السلطات التركية على وسائل الإعلام الرسمية والخاصة وتسخيرها للدعاية الانتخابية لصالح جهة سياسية ضد خصمها، وادعاءات المعارضة حول وجود التلاعب باللوائح الاسمية للمقترعين الذين زاد عددهم بنحو 1.8 مليون مواطن، وبالصناديق الانتخابية ونتائجها في القرى والأرياف النائية، فإن فوز أردوغان بالجولة الثانية من الانتخابات يقرأ كنجاح للمنظومة الزبائنية التي أسسها، لا كنجاح للديمقراطية الانتخابية، التي تفترض معايير حاسمة تبدأ بحتمية الفصل بين الدولة والحكومة ولا تنتهي عند شفافية العملية الانتخابية بكافة مراحلها.
كما أن وجود صناديق الاقتراع بحد ذاته، لا يشير إلى وجود الديمقراطية، وإلا فإن دولاً إقليمية معروفة بتأثير صناديق الاقتراع على تركيبة حكوماتها كإيران ولبنان مثلاً كانت لتصنّف ضمن الديمقراطيات المتقدّمة على مستوى العالم.