القضية الكردية/التركية في الانتخابات

لم تتضّح النتيجة النهائية للدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية التركية حتى كتابة هذا المقال، ولكن ملامح المرحلة المقبلة واحتمالاتها ازدادت وضوحاً حول طبيعتها، وغموضاً بمآلاتها القادمة. سوف تدخل تركيا غالباً إلى حالةٍ أقلّ استقراراً من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وسيضطرّ الطرف الرابح؛ الذي يغلب أن يكون أردوغان نفسه؛ إلى مواجهة ظروف استثنائية، لن يستطيع الهروب منها إلى الساحات الخارجية، أو بواسطة المزيد من الإجراءات الاستثنائية.

ما بين الحالة الاقتصادية ومشكلة اللاجئين والمسألة الكردية؛ ولكلّ منها اسم حركيّ آخر غالباً؛ سيحاول هذا المقال أن يتعرّض للقضية الثالثة بينها، التي تتغلّف تحت عنوان” الحفاظ على الأمن القومي”، بكلّ إيحاءاته ودلالاته الحقيقية منها والمفتعلة. ستكون الروابط الخفية والمكشوفة ما بين تلك المسألة والانتخابات مدخلاً لفهم تشعبّاتها أيضاً.

في منتصف عام ٢٠١٥، انتهى عهد الرضا المفتوح والراحة لحزب العدالة والتنمية، وربح الانتخابات بنسبة ٤١٪ بالمائة فقط، بعد أن كانت ٤٩٪ في الانتخابات التي سبقتها، وعلى مدى ١٣ عاماً متوالية، منذ ٢٠٠٢. ذلك أوقع البلاد في حالة عدم يقين وارتباك سياسي حادة؛ فإلى جانب العلائم التي نتحدّث عنها، كانت الغارات الجوية على المعسكرات الكردية، والهجوم الذي تلاها بعربة مفخخة كردية على الوحدات التركية مؤشّراً وعلامة على انتهاء هدنة وآمال دامت حوالي العامين قبل ذلك.

في مساء ٢١ آذار ٢٠١٣، نقلت رويتر أن آلاف الكرد قد تجمعوا في ديار بكر ذلك اليوم” للاستماع إلى بيان كتبه زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان- من سجنه في إيمرالي- بعد محادثات طويلة مع الحزب الحاكم، يعلن فيه وقف إطلاق النار في الحرب التي استمرت 30 عاماً مع الدولة التركية. وقد تُليَ البيان على الحشد المنتظر من قبل السياسي التركي سري ثريا أوندير، الذي أعلن أيضاً أن ذلك هو “بداية حقبة جديدة” ودعا مقاتلي حزب العمال الكردستاني داخل تركيا إلى الانسحاب” من خطوط المواجهة إلى ما وراء الحدود. إلى جبال قنديل، عبر ممرات جبل متينا. وكان أن رفع ذلك الخبر الآمال بنهاية سلمية للصراع الدامي، من دون رفع اليد عن الزناد بالطبع. ودامت تلك المرحلة لعامين، كان يأمل فيهما الحزب الحاكم بعهد أكثر ازدهاراً له.

إلّا أن انتخابات ٢٠١٥ أعطت ١٣،١٢٪ من الأصوات للكرد، مع ثمانين نائباً في البرلمان، اتّضح أنهم قد ربحوا على حساب العدالة والتنمية، الذي خسر أغلبيته المطلقة التي تمتّع بها طويلاً. فهل كانت تلك النتائج وعواملها ونتائجها سبباً في تغيّر المزاج السلمي، واستفحال” أزمة” الأمن القومي التركي، وتوتّراتها؟! من ناحية أخرى قالت صحيفة اللوموند في تقرير لها يومئذٍ أنه على كل حال” لم يكن حزب العمال ينوي رمي السلاح. وأنه عند انتهاء القتال في تركيا، سوف ينتقل المقاتلين إلى مكان آخر. إلى سوريا لقتال الجهاديين؟ ” نعم” أجاب المقاتلون جميعاً بحماس. و” إذا تمّ التوصّل إلى حلٍّ سياسي في الشمال- تركيا- لن يعني ذلك أننا سوف نقعد هنا لا نفعل شيئاً” كما قال المقاتل خليل،” ينبغي أن ندافع عن الشعب الكردي”… وذلك بدوره كان تأسيساً لإشكالية موضوعية أخرى، ليس هنا مكانها في هذا المقال.

كان من الطبيعي كذلك مع هذا أن تنتفخ مقولة” الحفاظ على الأمن القومي”، ولا تتوقّف عند الغارات شمال العراق، بل تتحوّل إلى شمال سوريا. وسيحدث هذا بالاشتراك مع تقلّص آفاق تسوية” المسألة الكردية” في تركيا. وسيغدو التوتّر خارج الحدود وداخلها- كليهما- من بين أدوات السياسة الداخلية والانتخابية.

على الرغم من التاريخ الحديث المتأزّم بين الترك والكرد، وخصوصاً بعد تأسيس الدولة الحديثة من قبل مصطفى كمال أتاتورك، والاستعانة بالانتماء القومي- التركي مع العلمانية لتحصين الانتماء الوطني، ثم ما حدث من انتفاضات تركية وسعي قانوني وعملي من أجل التجانس وإذابة الجميع في البوتقة الوطنية/القومية الواحدة؛ فقد توقّف حزب العمال الكردستاني منذ أواخر القرن الماضي عن رفع شعار كردستان الحرّة الموحّدة في أجزائها الموزّعة في أربعة بلدان، وأخذ بالتركيز على الحكم الذاتي والحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية والمواطنة المتساوية.

تأسّس حزب الشعوب الديموقراطي على تلك التحوّلات وعمليات التكيّف والتحديث معتمداً على الكفاح السلمي وعلى مسار الانضمام إلى الاتّحاد الأوروبي الذي ما انفكّ يضع الحقوق الكردية بين شروطه، حتى حقّق نجاحه الكبير في انتخابات ٢٠١٥. بعد ذلك أصبح يُسمّى بصانع الملوك، لأنّ أصواته الانتخابية والبرلمانية أصبحت عاملاً حاسماً في تغليب طرفٍ على آخر في الأغلبية الحاكمة أو المعارضة ومستوى قوّتها وتأثيرها.

هنالك نَزَقٌ ومسار حادّ في التعامل مع المسألة الكردية في تركيا، تزيد من حرارتهما شراسة الحروب الانتخابية. ينساب هذا النزق بشكل متزايد خارج الحدود، على شكل تدخّلات في الأراضي العراقية لتتبّع عناصر حزب العمال، وحروب في الأراضي السورية أكثر تعقيداً وعنفاً وإشكاليةً، بسبب انتقال الحدّة وتبادلها ما بين القضية الكردية/التركية والقضية الكردية/السورية. ابتدأت تلك العمليات بتلك المسماة” درع الفرات”، في صيف ٢٠١٦ واستهدفت داعش ووجودها في المنطقة الوسيطة بين جرابلس واعزاز وحتى الباب جنوباً، ثمّ عملية” غصن الزيتون” التي استغرقت عدة أسابيع حتى تمت السيطرة على منطقة عفرين الكردية؛ وأخيراً عملية” نبع السلام” في تشرين الأول/٢٠١٩ حين سيطرت على المنطقة ما بين رأس العين وتل أبيض. وكانت الأخيرة قد أصبحت تحت سيطرة قوات سوريا الديموقراطية عند تحريرها بالتنسيق مع التحالف الدولي ضد داعش وفي إطار الحرب عليها.

ربّما تحتاج هذه التعقيدات إلى فك ارتباط، ولو نسبياً، ما بين القضايا في أكثر من مكان. يحدث هذا بشكل طبيعي وموضوعي شيئاً فشيئاً، ولكنّ أطرافاً هنا وهناك لا تريد حلحلة العُقَد وتتورّط في استدامتها، لأسباب بعضها إيديولوجي وبعضها انتخابي، وكلا العاملين من أصل واحد في العصبيات وضمن إسار التاريخ والأوهام.

ختاماً وبشكلٍ مؤقت: إن ما هو أكيد حتى الآن هو أن حزب العدالة والتنمية وزعيمه قد خسرا جزءاً إضافياً من رصيدهما الشعبي. وستكون الدورة الثانية حامية الوطيس، لكنّ ما سيليها سيكون أكثر حرارة وتأزّماً وتلك الجرعة الثالثة من الأصوات من رصيد سنان أوغان سوف تنقسم ما بين المرشّحين والضجر. لكن الصوت الكردي سوف يكون في سباق مع الزمن، ومع أمواج التصويت في المهجر… إلّا أن النتيجة سوف تكون في رأي أكثرية المراقبين العظمى لصالح أردوغان.

كانت المنطقة (والعالم) معلقة الأنظار في الانتخابات التركية، ولا زالت. ويستطيع كلّ طرف أن يسلك طريق التوتر من أجل تحسين أصواته، أو طريق السلم والتسوية والمصالح العامة، التي جعلها الزلزال الأخير تتقدم إلى الأمام. وللكرد هنا دور مهمّ وصانع للملوك، خصوصاً إذا استطاع حشد نسبة تصل إلى تلك التي حصلوا عليها في بداية صيف ٢٠١٥، أو ربّما تفوقها!