تحليل لنتائج انتخابات 14 أيار التركية

تقاربت بشكل كبير أرقام الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التركية مع أرقام الانتخابات البرلمانية التي جرت باليوم نفسه، حيث حصل المرشح  الرئاسي رجب طيب أردوغان على 49،50 بالمئة من الأصوات فيما حصل تحالف الأحزاب الداعم له، أي (تحالف الجمهور)، على 49،50 من الأصوات بالانتخابات البرلمانية، وحصل المرشح الرئاسي كمال كيليجدار أوغلو على 44،89 بالمئة وحصل تحالف الأحزاب الداعم له، أي (تحالف الأمة)، على 35،04 بالمئة من الأصوات البرلمانية وسانده رئاسياً (تحالف الحرية والعمل) الذي نال 10،56بالمئة من الأصوات بالانتخابات البرلمانية.

 هذا التقارب يعطي صورة عن أن شخصيات المرشحين للانتخابات الرئاسية  لم تلعب دوراً فارقاً، وإنما الأيديولوجيا والبرنامج السياسي، في مجتمع مسيّس بعمق ومنقسم أيديولوجياً، وهو ما يفسر المشاركة الكثيفة في انتخابات 14أيار/مايو التركية الرئاسية- البرلمانية. بهذا الصدد يمكن المقارنة مع فرنسا عام 1986عندما فاز اليمين الديغولي مع أحزاب يمينية متعددة بأغلبية مقاعد الجمعية الوطنية الفرنسية فيما كان في قصر الإليزيه رئيس يساري اشتراكي هو فرانسوا ميتران مما اضطره للتعايش مع رئيس وزراء اسمه جاك شيراك، وهو ماتكرر مع الأخير بعد فوزه بالرئاسة عام 1995 عندما فاز الاشتراكيون بعد سنتين بأغلبية برلمانية وتعايش شيراك مع رئيس وزراء إشتراكي هو ليونيل جوسبان. يمكن بهذا المجال أن يكون الطابع الأيديولوجي الصدامي لأردوغان وحزبه الإسلامي قد أنتج في عقدين من الزمن من حكمهما هذا الاستقطاب الأيديولوجي التركي الحاد والتباعد بين خنادق سياسية متجابهة.

يمكن أن يساعد على مقاربة هذا الواقع التركي عملية التوزع الجغرافي للقوى السياسية كما بينت الانتخابات التركية الرئاسية- البرلمانية، حيث تركزت أصوات  أردوغان وحزب العدالة والتنمية  في الأناضول وفي مدن ساحل البحر الأسود والساحل الجنوبي لبحر مرمرة وفي مدينتي مرعش وغازي عنتاب، فيما كانت قوة حزب الشعب الجمهوري (العلماني الأتاتوركي) في ساحل بحر إيجة وساحل البحر المتوسط وفي لواء إسكندرون وفي القسم الأوروبي التركي (منطقة تراقيا) وتفوق في مدينتي إسطنبول وأنقرة على حزب أردوغان الذي حل بهما ثانياً، فيما كانت قوة القوميين الطورانيون بحزبيهما (الحركة القومية) و(الجيد) في مدن أضنة ومرسين وعثمانية، أما (حزب اليسار الأخضر:حزب الشعوب الديمقراطي) فنال أكثرية الأصوات في المناطق الكردية مثل ديار بكر وماردين  وشرناخ وهكاري وفان وآغري  ونال حليفه الماركسي- الشيوعي (حزب العمال)،في (تحالف العمل والحرية)، أربع مقاعد بمدن على الساحل المتوسطي.

يمكن للتوزع الأيديولوجي أن يكون مفيداً أيضاً في هذه المقاربة، حيث نال الإسلاميون  305 مقاعد من مقاعد البرلمان الـ 600، إذا حسبنا 268 مقعداً للعدالة والتنمية وخمسة مقاعد لحزب الرفاه الجديد وهو متحالف مع حزب أردوغان ولأحزاب إسلامية ركبت في “بوسطة” حزب الشعب الجمهوري للوصول إلى البرلمان مثل حزب التقدم والديمقراطية بزعامة وزير خارجية أردوغان السابق علي باباجان ونال 14مقعداً وتسعة مقاعد لحزب السعادة، وتسعة مقاعد لحزب المستقبل بزعامة أحمد داود أوغلو.

 ونال الأتاتوركيون 134مقعداً هي لحزب الشعب من دون ركاب بوسطته، والقوميون الطورانيون بحزبيهما أخذوا 94 مقعداً، أما أنصار نظرية “الأمة الديمقراطية” في  اليسار الأخضرةفنالوا 61 مقعداً والماركسيون أربعة مقاعد.

 في هذه اللوحة الأيديولوجية التركية، يلاحظ اختفاء لليبراليين على طراز “حزب العدالة” الذي كان بزعامة سليمان ديميريل بالنصف الثاني من القرن الماضي في واجهة السياسة التركية، واختفاء الاتجاه الاشتراكي- الديمقراطي الذي كان رمزه رئيس الوزراء السابق بولنت أجاويد عندما كان يتزعم حزب الشعب بالسبعينيات ثم عندما أسس (حزب اليسار الديمقراطي ) بالتسعينيات.

على صعيد التقاربات الأيديولوجية- البرنامجية، يلاحظ تقارب الطورانيين في (الحركة القومية) من الإسلاميين، ثم انزياح طورانيين مثل حزب الجيد باتجاه الأتاتوركيين في حزب الشعب، ثم انزياح إسلاميين معتدلين، مثل باباجان وداود أوغلو وفي حزب السعادة، باتجاه حزب الشعب وعلى الأرجح أن ذلك هو رد فعل على فردية أردوغان في قيادة حزبه، فيما يلاحظ تلاقي أحزاب الماركسيين- الشيوعيين العديدة  مع أنصار “الأمة الديمقراطية” في تحالف الحرية والعمل.

على صعيد حركية القوى، فإن حزب العدالة والتنمية في تراجع مضطرد لقوته البرلمانية منذ عام 2015، وإن ظل هو الحزب الأول في عدد المقاعد البرلمانية، مع ثبات عند الأتاتوركيين والطورانيين في القوة البرلمانية، وتراجع طفيف في قوة أنصار الأمة الديمقراطية، وبروز جديد ولكن قليل القوة  للماركسيين- الشيوعيين في انتخابات 2023 وإن أصبح لهم قوة ملموسة بين المثقفين والأكاديميين والطلاب والنساء.

يمكن أيضاً مقارنة حركية خريطة اللوحة السياسية التركية؛ ففي الخمسينيات كان الحزب الديمقراطي بزعامة عدنان مندريس ، وهو يحمل اتجاهاً ليبرالياً اقتصادياً – غربياً أطلسياً  مطعماً بنزعة ثقافية إسلامية محافظة، في مواجهة أتاتوركيي حزب الشعب. في السبعينيات فإن الأقوى كانا حزب الشعب وحزب العدالة وأقل منهما حزب العمل القومي الطوراني الاتجاه بزعامة ألب أرسلان توركيش ثم الإسلاميين في حزب النظام الوطني، ثم الخلاص الوطني، بزعامة نجم الدين أرباكان. في التسعينيات كان ليبراليو ديميريل وتورغوت أوزال هم بالصف الأول، يليهم إسلاميو أرباكان في حزب الرفاه، ثم الأتاتوركيون، مع بروز قوي وبأشكال متعددة لحزب العمال الكردستاني. مع وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة عام 2002 تغير المشهد وحكم لوحده حتى عام 2015 ثم تحالف لتأمين غالبية برلمانية ولتعديل الدستور نحو النظام الرئاسي مع الطورانيين.