هنالك انتخابات رئاسية وبرلمانية بدأت في تركيا، وهذا الحدث يستقطب أعين العالم، وليس أعيننا نحن السوريين فقط. قالت” لو بوان إن “العالم يحبس أنفاسه” بانتظار نتائجها، واعتبرتها الواشنطن بوست والإيكونوميست “الانتخابات الأكثر أهمية في العالم في عام٢٠٢٣”، ومركز تشاتام هاوس للأبحاث “واحدة من بين أهم ثلاثة أحداث يترقّبها العالم هذا العام”؛ فهي تشكّل مركز ترقّب وقلق دولي، في الغرب والشرق. ويعتبر الخبراء عموماً أن تركيا “دولة محورية” ذات دور هام بإمكانياتها الاستراتيجية المتنوعة الموارد والتأثير في سياسات الدول الكبرى وفي دائرتها الأقرب، وعلى توازن القوى الذي يمرّ في لحظة تاريخية ربّما تكون انتقالية.
إضافة إلى أثرها المباشر على آفاق البلد ذاته ومستقبله القريب أو البعيد، هنالك آثار مباشرة سوف تنعكس على السوريين وقضيّتهم، بشكلٍ يمسّ مباشرة الكثير من مصالحهم الجمعية والمناطقية وحتى الفردية. بذلك يدخلون عصر الانتخابات وما يصاحبها من قلق وحماسة لم يعتادوا عليهما، بعد أن خرجوا- معظمهم- من عصر الاستفتاءات.
للوضع الاقتصادي أكبر تأثير على رأي الناخب التركي ( ٦٪ في الاستطلاعات الأخيرة)، ولذلك تأخذ قضية اللاجئين عموماً واللاجئين السوريين خصوصاً موقعاً متقدّماً بين اهتمامات ذلك الناخب، وفي سياسات الطرفين المتنافسين وبرامجهما الانتخابية. أولئك الهاربون من جحيم الطاغية إلى تركيا، الأربعة ملايين لاجئ، أقل أو أكثر بقليل.
لذلك قد تنعكس نتيجة الانتخابات على شمال غربي سوريا، حيث الوجود والنفوذ التركي السائدين، وحيث يمكن أن يكون هدف ترحيل وتوطين ما يقارب المليون مواطن، بحيث ينزل حملهم عن ظهر الاقتصاد التركي كما يرى البعض، ويمكن استخدامهم لتصليب الهندسة الديموغرافية وملاءمتها للاستراتيجيات التركية. هذا كلّه نظري حتى الآن ومرتبط بالبرامج الانتخابية وإثارتها التنافسية، وليس بوقائع ما بعد الانتخابات.
هنالك أربعة ملايين ونصف سوري في شمال غربي سوريا- شمال حلب وإدلب- حالياً بين مقيم ونازح، ثلاثة أرباعهم ينعدم أمنهم الغذائي، ومنهم أقل من مليونين بقليل يسكنون المخيمات. تتوزّع مناطق شمال حلب في التبعية الإدارية إلى سلطات محافظات هاتاي وكلّس وغازي عنتاب وشانلي أورفه، مع مشاركة تزيد أو تنقص لميليشيات سورية تابعة رسمياً للائتلاف المعارض وحكومته المؤقتة، وعملياً لأهواء أمراء الحرب. في حين تسود” هيئة تحرير الشام” و”حكومة الإنقاذ” التابعة لها في محافظة إدلب مع وجود نقاط مراقبة تركية ضامنة بالمعنى الاستراتيجي والعملي عند اللزوم.
قد لا تنعكس نتائج الانتخابات مباشرة على تلك المناطق فالبرامج شيء وتنفيذها شيء آخر أحياناً، وتبقى الأمور على وضعها الحالي لفترة أطول حتى نضوج حالة توازن قوى جديدة؛ مع أن الدفع بأعداد وازنة من اللاجئين عبر الحدود وارد رغم محاذيره وصعوباته أيضاً؛ وقد تبدأ سياسة مساومة من حيث بدأت محاولة التطبيع مع النظام، لتتطوّر دراماتيكياً إلى تسوية وتنازلات متبادلة كبيرة، تتضمّن الوضع والسلطة على الأرض هناك؛ وقد يكون تفوّق هيئة تحرير الشام واستقرار مناطق سيطرتها وانتهاء صلاحية “فوضى” شمال حلب ودورها، باباً لتوحيد كلّ المنطقة تحت سلطة الأقوى، خصوصاً بعد مسلسل تلميع صورة التشدّد والتطرّف وإعادة تأهيل قواه. كلّ ذلك احتمالات قد يتفوّق عليها في التأثير وقائع جديدة في المرحلة التالية للانتخابات، خصوصاً في حالة فوز المعارضة، وصعوبات إعادة الترتيب والتنظيم والاصطفافات.
لا ينطلق اهتمام تركيا المتأزّم بسوريا من كونها مدخلاً لاستراتيجيتها الإقليمية، وحسب. هنالك المسألة الكردية، من حيث يرى فيها إردوغان وخصومه معاً خطراً على الأمن القومي، ينطلق من الشحنة القومية العالية التوتّر، التي ورثتها السياسة التركية التقليدية- الحديثة- من مؤسّسها أتاتورك. تلك المسألة جزء أصيل من السياسات التركية، والمبالغة فيها أيضاً جزء أصيل من الآليات التي تحكم الصراعات السياسية الداخلية هناك. اعتادت القوى والنخب التركية على استخدام تلك القضية في مفرداتها وأدبياتها وخطابها، خصوصاً حين يكون هنالك توتّر ما معيقٌ لتمرير سياسات مادية ضرورية. أصبح تعبير “خطر على الأمن القومي” شعاراً يمكن ترجمته بسهولة إلى ضرورة تحقيق إجراءات ضد الكرد والقوى الكردية ليكون حشد “الحاضنة الشعبية” أكثر سهولة. لا يندر أيضاً أن تُستخدم تلك النقطة لطمس نقاط أخرى هنا وهناك.
حالياً يلتقي إردوغان وخصومه على ضرورة التطبيع مع النظام السوري، ويلتقيان أيضاً على ذلك الخطر على الأمن القومي الذي يشكّله حزب العمال الكردستاني، الذي أصبح علماً على قوى كردية خارجه أيضاً، بل هو يتمدّد حتى يشمل الكرد كنوع من البشر.
ما لم يكن هنالك سبب خارجي إضافي لعملية عسكرية جديدة ضدّ شمال شرقي سوريا، لا يعتقد مراقبون أنها ستحدث في المدى المنظور من قبل حكومة أردوغان إذا عاد إلى السلطة. ذلك لا يستثني الاستثناءات بالطبع. وفي تلك المسألة سوف يكون تحالف الستة أيضاً غير مرتاح لأي قرار بالمبادرة عسكرياً في مدى أبعد، لأن هنالك صعوبات ينبغي تذليلها أولاً مع الجيش الذي ابتعدت به حكومة حزب العدالة والتنمية الأتاتوركية المؤسِّسة، ولسبب آخر لا يقلّ أهميّة، هو أن حزب الشعوب الديمقراطي سوف يكون عندئذٍ السببَ المباشر لفوز المعارضة، الأمر الذي يجعله في وضعية أفضل لتقديم المطالب المضادّة لفرضية التدخل العسكري الداهم.
لن يكون هذا التأثير البالغ للانتخابات التركية ونتائجها محصوراً بالمسألة السورية وحدها؛ فتركيا “دولة محورية” أساساً وليست دولة عادية، وهذه الدولة أقلّ من دولة كبرى من حيث الأصول الموجودة تحت يدها، لكنها أكثر أهمية وفاعلية من دول قد تعادلها في “الأهمية السياسية، أو العسكرية، أو الاقتصادية، أو الاستراتيجية الخصوصية” كما ورد في تحليل لمودرن دبلوماسي. مناحي الأهمية تلك كلّها محطّ تركيز واهتمام الدول الكبرى. وسوف يكون هنالك موقف جديد، مختلف كثيراً أو قليلاً بعد الانتخابات، ينعكس على علاقة تركيا بالناتو، وبالولايات المتحدة، وأوروبا، والحرب الأوكرانية، وبكلّ تشابكات النزاع في الشرق الأوسط الأكبر من شرقي المتوسّط، من ليبيا ونفط البحر وسوريا والعراق، ثمّ في نزاع آذربيجان وأرمينيا… لكنّ سوريا- بلاجئيها وكردها… ومستقبلها- هي النقطة الأكثر كثافة بالتأثير على سياق الانتخابات، وبالتأثّر بنتائجها.
من المؤكّد أن تركيا لن تكون، مهما كانت نتيجة الانتخابات، كما اعتادت في العقدين الأخيرين. قد يؤدّي الاستقطاب الحادّ فيها إلى محاولة رفض نتائج الانتخابات و”الانقلاب” عليها. وسوف يكون نجاح المعارضة- فيما لو حصل- مدخلاً لأزمات متشعّبة أيضاً وإعادة رسم لخريطة الاصطفافات، مع صعوبة تصفية الإرث المعقّد ما بين الديمقراطية والشمولية، وما بين البراغماتية والشعبوية. وإذا نجح إردوغان وحزب العدالة والتنمية أيضاً، لن يكون حكمهما بالسهولة ولا بالقوة ذاتهما، وستبدأ عناصر التناقض والنَخر بالعمل مباشرة بعد احتفالات النصر. ومثل هذه المعركة قد تنسجم مع منطقها أكثر إذا كانت نتائجها متداخلةَ الكسبِ والخسارةِ في كلّ الحالات.
تبدي المعارضة التركية التزاماً أعلى بالقوانين الدولية فيما يخصّ مسألة اللاجئين، وبالعودة إلى التقارب مع الغرب، وبمقدار أقلّ من الإثارة والنزق والمفاجآت التي اعتاد العالم عليها مع حكم العدالة والتنمية، الإسلاميّ الذي يتبنّى التيارات الإسلامية خارج تركيا بكلّ ما تحمله من احتمالات التطرّف المقلقة للاستقرار على أكثر من صعيد، معتمداً على رصيده الذي بنى مجده، في قيامه على إسلام معتدل وديموقراطي، قبل تطوّرات العقد الأخير. ولكنّ تلك المعارضة قد تكون أسيرة لتراث قومي متشدّد، يحمل أخطار التوتّر ذاته مع الآخرين، وخصوصاً الكرد، ما لم يكن لدعم حزب الشعوب الديموقراطي الكردي لطاولة الستة المعارضة ومرشحها دور في امتصاص زخم ذلك الإرث وتهدئته.
كما كان مركز الزلزال المدمّر الأخير- الذي عصف بالسوريين بعنف- في قلب هضبة الأناضول، فإن بؤرة أنظارهم حالياً تتركّز على تركيا وانتخاباتها. لذلك، ننتظر ونراقب بعناية، نحن السوريين المحتاجين إلى ما يدعم مسارهم نحو حلّ سلمي لمأزقهم المتعدّد الرؤوس، ينهي الاستبداد ومرارة العنف والتفتّت والتشرّد، ويؤسس لمستقبل أكثر إشراقاً وحداثة.