يمكن أن يعد رجب طيب أردوغان الأكثر تأثيراً على مجمل الحياة السياسية التركية منذ مصطفى كمال أتاتورك، والمفارقة هنا أنه من تيار اسلامي أصولي معادي للأتاتوركية أيديولوجياً، و هو اشتغل خلال عقدين من حكم حزب العدالة والتنمية على قصقصة، أحياناً بطيئة وأحياناً قوية الاندفاع كما جرى بعد محاولة انقلاب 15 تموز/يوليو 2016، لمعاقل الأتاتوركية في الجيش والقضاء والجامعات والإدارة.
هناك سياسيون فشلوا ،ودفعوا حياتهم ثمناً لهذا الفشل، مثل رئيس الوزراء عدنان مندريس الذي أطاح به انقلاب أتاتوركي عسكري عام 1960 وانتهى به الأمر إلى المشنقة، وهو أول من حاول نزع الأتاتوركية بعد فوز حزبه، إذ كانت أيديولوجيته مزيجاً من الليبرالية الاقتصادية مع ميول ثقافية واجتماعية إسلامية محافظة، في الانتخابات البرلمانية عام 1950 مستنداً إلى قاعدة اجتماعية في ريف الأناضول وفي البلدات الصغيرة وفي القسم الآسيوي من إسطنبول وعند الوسط الكردي الذي عانى كثيراً من أتاتورك وسياساته القومية الشوفينية، وكانت محاولته تلك مستندة إلى رصيد انتخابي حصًله من الفوز بثلاث انتخابات برلمانية وإلى استناد خارجي عندما أدخل مندريس تركيا إلى حلف الأطلسي وكان ذراعاً متقدمة للحلف ضد السوفيات وعندما تلاقى مع بريطانيا في حلف بغداد ضد عبدالناصر، ولكنه انتهى على مذبح مؤسسة عسكرية كان الأتاتوركيون معشعشون فيها وخاصة ضمن الضباط متوسطي الرتب، وهم الذين أطاحوا به.
وهناك سياسيون نجحوا مثل تورغوت أوزال الذي قاد تركيا، كرئيس وزراء ثم كرئيس للجمهورية، إلى التعافي من الكثير من آثار انقلاب العسكر عام 1980، واستطاع نقل البلد من الحكم العسكري نحو حكم مدني حزبي برلماني بين عامي1987و1993.
إذا فحصنا سجل أردوغان فيمكن القول أن نجاحه الأكبر كان في الاقتصاد لمّا نقل تركيا إلى نادي العشرين، والأرجح أن هذا يفسر فوز حزب أردوغان في كل الانتخابات البرلمانية والرئاسية والمحلية (كسجل عام في الأخيرة كمجموع للبلديات والولاة رغم الخسارة عام 2019 في بلديتي إسطنبول وأنقرة) منذ عام 2002، والأرجح أن احتمالات فشل هذا الحزب في الانتخابات القادمة الرئاسية والبرلمانية أو احداهما سيكون بسبب الأزمة الاقتصادية التي بدأت تفعل مفاعيلها على جيوب غالبية الأتراك في السنتين الماضيتين.
في السياسة الخارجية لم يكن أردوغان ناجحاً، فهو لم يستطع أن يضع خياراً واضحاً محدداً للسياسة التركية بعد الحرب الباردة لما فقدت تركيا وضعها كرأس حربة ضد السوفيات عند حلف الأطلسي، ولم يستطع أن يحدد أين محور السياسة التركية الرئيسي: مع الغرب الأميركي- الأوروبي كما فعل مندريس؟ أو مدارها في الجنوب كما يقترح الإسلاميون أصحاب “العثمانية الجديدة”؟ أم في العالم التركي الذي يعتبره الطورانيون ممتداً من بحر إيجة إلى تركستان الصينية؟. وهو في هذا المجال بعد أن حاول ممارسة العثمانية الجديدة، وخاصة مع فوز الإسلاميين في الانتخابات بمصر وتونس ووصولهم لمركز قوة فعالة في ليبيا وتزعمهم للمعارضة السورية بفترة ما بعد “الربيع العربي”، عاد وحصد الفشل مع ارتداد الأميركان عام 2013 عن زواجهم القصير الأجل مع الإسلاميين الذي عقدوه بعامي2011 و2012، كما أنه لم يستطع منافسة النفوذ الروسي في “الحدائق الخلفية السوفياتية السابقة لموسكو”، ولم يستطع أن يدخل في علاقة مستقرة مع واشنطن ولا أن يقنع الأوروبيين بقبول تركيا في الاتحاد الأوروبي. وعندما نستذكر ما وضعه وزير خارجية أردوغان، داوود أوغلو ، من سياسة “صفر مشاكل”، نرى الحصيلة قد أصبحت معاكسة حيث تركيا الآن في وضعية دولة مخاصمة أو معادية أو في وضع مقلق أو في مشاكل مع كل جيرانها.
بسبب مأزق سياسته الخارجية يمارس أردوغان منذ صيف 2016 سياسة الرقص على الحبال بين الأميركان والروس، حيث يدير سياسة متلاقية مع واشنطن في ليبيا ومتعارضة مع الروس، ومتعارضة مع الأميركان في سوريا ومتلاقية مع الروس، ومتعارضة مع الروس في النزاع الأرمني- الأذربيجاني، والأخيرة – أي سياسة اللعب بين الكبار- هي سياسة ذات أمد قصير ولا يمكن أن تستمر وكل من مارسوها دفعوا ثمناً باهظاً مثل عبدالناصر مع السوفيات 1955-1958 ومع الأميركان 1958-1964 ومع السوفيات 1964-1970.
في السياسة الداخلية، يمكن القول أن أردوغان قد نجح في تقليص مساحة الأتاتوركية في الفضاء العام التركي داخل المؤسسة العسكرية والقضاء والجامعات والإدارة وفي الحياة الثقافية وفي مجال الاعلام، ولكنه لم ينجح في حل المشكلة الوطنية التركية المتمثلة في أن مشروع أتاتورك لتتريك تركيا لم ينجح وقد أثبتت تجربة قرن من الزمن، هو عمر الجمهورية التركية، بأنه لا يمكن سيطرة قومية في بلد متعدد القوميات ولا أن تطبع هوية البلد الوطنية بطابعها القومي، هذه المشكلة الوطنية التركية التي اسمها الآن القضية الكردية في تركيا، بل يمكن القول بأن حكم أردوغان قد فاقم القضية الكردية وزادها قوة وتعقيداً، وأيضاً من جهة أخرى نرى حدود هذه المشكلة الوطنية التركية عندما لا يكون هناك جامعاً وطنياً موحداً لجميع المواطنين، بتعدد قومياتهم وطوائفهم، رغم خلافاتهم السياسية، كما نجد في ألمانيا أو فرنسا. في هذا المجال كان أردوغان فاشلاً ؛ فما زالت تحديدات : تركي- كردي، سني- علوي، وتركي سني- وتركي علوي، فاعلة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، إضافة للانقسام الكبير بين علمانيين وإسلاميين الذي أتى حزب أردوغان للسلطة عام 2002 حاملاً رايته وكان تعبيراً عنه، وقد زاد أردوغان من العمق والمساحة الفاصلة في تلك الخنادق، وتركيا الآن بعد عقدين من الزمن من حكم حزب العدالة والتنمية منقسمة وليست موحدة ، وانتخابات يوم الأحد القادم هي أكبر تعبير عن هذا الانقسام التركي .