مشاريع فوق الرقابة.. معمل زيت في القامشلي يتسبب بكارثة بيئية

تحقيق: محمد حبش 

كانت الشمس قد بدأت بالمغيب، تاركة المجال للروائح الكريهة أن تنتشر في أجواء قرية كرباوي/أبو راسين القريبة من القامشلي شمال شرقي سوريا، والتي وصلنا إليها بهدف التحقيق في الآثار السلبية التي يخلفها معمل لإنتاج الزيت النباتي في هذه المنطقة.

قادنا دليل كان يرافقنا في القرية إلى منزل محمد يوسف، وهو اسم مستعار لشاب عشريني. طلبنا الجلوس في فناء الدار، لكنه أصرّ على الدخول إلى غرفة الضيوف: “الرائحة لا تحتمل. أنصحكم بالدخول”.

قبل نحو عامين أعلنت الإدارة الذاتية، عن إنشاء معمل “كولدن روز” للزيوت النباتية، بالقرب من قرية “كرباوي” غرب القامشلي، بطاقة إنتاجية تقديرية تصل إلى 300 طن يومياً.

ورغم أن المشروع أثار اهتمام السكان حينها، وعدّه البعض رائداً في إطار تحقيق نوع من الاكتفاء الذاتي، إلا أنه ألحق أضراراً بالغة بالبيئة، بسبب استخدام طرق بدائية في تصريف مخلفات المعمل. 

طيلة ستة أشهر عمل معد التحقيق على جمع أدلة مرئية باستخدام كاميرا سرية، وحصل إلى جانب ذلك على وثائق رسمية تثبت الأضرار التي تسبب بها المعمل. إضافة إلى  شهادات سكان وخبراء.   

قرية تختنق 

تعاني والدة “يوسف” من مرض الربو منذ سنوات، لكن خلال العامين الماضيين لاحظ الأطباء أن المرض بات يشتد عليها، خصوصاً في فصل الصيف.

ورغم أنه لا يمكن القطع بسبب اشتداد المرض مؤخراً، إلا أن ابنها يقول إن تلوث الهواء الناتج عن انبعاثات مخلفات المعمل القريب هو أحد الأسباب الرئيسية. 

وتضطر المرأة لتجنب النوم أو الخروج إلى فناء المنزل في الصيف، بسبب الروائح المنتشرة في الجو، لأن المعمل لا يبعد عن القرية سوى “كيلومتر ونصف” فقط.

يقول محمد يوسف: “عندما تهب الرياح من الجهة الغربية، تتجه الرائحة لقريتنا. وإذا تغير اتجاه الرياح تتجه الروائح إلى القرى المجاورة الأخرى”. 

ويضيف: “الرائحة كريهة جداً. ليس للمرضى فقط. نتجنب التجول والتنزه في القرية، وخصوصاً في فصل الصيف لأن الرائحة تزداد”.

وتتقاطع شهادات جميع من قابلناهم في القرية مع ما يقوله “يوسف”. يقول سكان: “الرائحة عكرت أجواء القرية المعروفة بطبيعتها الجميلة”. 

مخلفات كارثية

يعتمد المعمل في عملية الإنتاج على بذور القطن، وفول الصويا وعباد الشمس، لتدخل هذه المواد إلى أولى مراحل الإنتاج.

المرحلة الأولى هي “الغربلة”، يفصل فيها القطن عن البذرة، وبعدها تنتقل لآلة “الحلاقة” ووظيفتها إزالة عوالق القطن والشوائب من البذور، لينتقل بعدها إلى آلة “العصارة” ووظيفتها عصر البذور بمساعدة بخار الهواء الساخن، تستخرج منها مادة الكسبة، وتباع كأسمدة عضوية، والزيت الخام الذي يعالج لاحقاً في قسم التكرير.

ويعد قسم التكرير من أهم الأقسام في المعمل، حيث يعالج فيه الزيت ليصبح قابلاً للاستهلاك البشري، وذلك عبر استخدام مادة هيدروكسيد الصوديوم (كوستيك)، لإزالة الأصماغ والحموضة واللون والعوالق. هي أشبه بعملية غسيل الزيت.

والمخلفات التي “يجب التخلص منها بطرق علمية” هي المياه والسوائل الناتجة عن عملية الغسيل تلك، وتتكون من مواد صابونية، ومادة هيدروكسيد الصوديوم ذات الفعالية العالية، ومواد سامة أخرى.

لكن القائمين على المعمل يتخلصون من هذه السوائل بطرق بدائية للغاية، دون أي مراعاة للشروط البيئية. 

وتنتقل السوائل عبر قنوات إلى حفرة بجانب المعمل بحبس كميات منها في حفرة ضمن أرض زراعية، في حين تنقل كميات إضافية عبر صهاريج إلى مدينة القامشلي ذات الكثافة السكانية العالية لتفرغ في قنوات الصرف الصحي.

خندق بدائي

أثناء إجراء مقابلات مع مشرفي الأقسام في المعمل، ادعى المرافق الموكل من قبل مسؤولي المعمل أنهم يعالجون المخلفات في محطة المعالجة على دفعات، لتجنب تجمع كميات كبيرة.

لكن تمكننا من الوصول إلى منطقة خلف المعمل حيث يمنع دخول أحد، والتقطنا مشاهد سرية تظهر خندقاً تفوح منه رائحة نتنة، وغير معزول بأي مادة عن التربة.

لاحقاً قمنا بالاستعانة بصور الأقمار الصناعية لحساب حجم الخندق، وأظهرت الصور أن طول الخندق يبلغ كيلومتراً واحداً، بعرض 10 أمتار، وعمق 4 أمتار، ويتسع لـ 40 ألف متر مكعب من المياه.

صورة ملتقطة بواسطة الأقمار الاصطناعية، يظهر فيها الخندق الذي حفره مسؤولو المعمل، باللون الأصفر.

شيار علي، مهندس مهتم بشؤون البيئة أشار لنورث برس، إلى أن استخدام حفر غير معزولة لتخزين المخلفات “غير مقبول أبداً، خصوصاً أن الكميات المخزنة كبيرة جداً”. 

وأكد أن “التربة لن تصلح للزراعة كلياً، وستتلوث المياه الجوفية والآبار السطحية والآبار القريبة من الموقع، وتتسرب هذه المواد لأعماق الأرض”. 

في قرية كرباوي المجاورة، تحدث رجل مسن (فضل عدم ذكر اسمه) عن قصة حدثت بعد فترة وجيزة من تشغيل المعمل.

يقول المسن: “اصطحب عامل وهو من سكان القرية صهريجاً من مخلفات المعمل إلى القرية بهدف إفراغه في قنوات الصرف الصحي، لكنه قوبل برفض السكان، ما دفعه للتبرير بأن الصهريج يحتوي سماً لقتل الجرذان”.

ويضيف: “لقد طردناه. بعد سنوات لن تصبح أرضنا صالحة للزراعة”.

أما طارق (اسم مستعار)، وهو أيضاً من سكان القرية، وعامل سابق في المعمل، أوضح أنه “في البداية لم يكن الخندق موجوداً، ولكن بعد فترة من تشغيل المعمل، تسربت المخلفات إلى أراضي المزارعين، ما دفع القائمين على المعمل لحفر الخندق”.

البلاء وصل القامشلي

أثناء العمل على التحقيق تقاطعت شهادات سكان محليين وموظفين في المعمل حول نقل كميات من المخلفات بواسطة صهاريج إلى القامشلي.

تمكنا من تأكيد هذه المعلومات، وحصلنا على مقطع صوُّر سراً أثناء إفراغ المخلفات في قناة للصرف الصحي في إحدى منشآت “شركات الحسن” في المدينة.

يقول المهندس شيار علي، إن التخلص من المخلفات في الصرف الصحي خيار سيئ للغاية، “لأن قنوات الصرف في المدينة تصب في النهر، ومع احتواء مخلفات المعمل على مواد مشعة ومسرطنة فإنها تؤثر على الإنسان والحيوان”. 

في هذا الإطار حاولت نورث برس، تحليل عينات من مخلفات خندق المعمل في مركز التحليل في القامشلي، إلا أن أجهزة المختبر لم تتمكن من إجراء الفحص بسبب وجود درجات عالية من التلوث في السائل.

وقالت عاملة في المركز إن الجهاز المتوفر قادر على  فحص المواد التي تحتوي ما بين 1500 لـ 3000 فينول، ولكن العينات التي حاولنا فحصها كانت تحتوي نحو 15 ألف فينول، بحسب القائمين على المختبر. 

ويستخدم مصطلح “فينول” للإشارة إلى أي مركّب مرتبط مباشرة بزمرة الهيدروكسيل، وهي مواد سامة وآكلة، ولابد من ارتداء اللباس الواقي أثناء الاستخدام والحرص الشديد على عدم اللمس والاستنشاق نظراً لخطورتها الشديدة على الجلد والجهاز التنفسي والعيون.

ما قصة المعمل؟

منحت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، رخصة إنشاء المعمل لصالح شركة محلية، في واحد من أهم مراكز تجميع الحبوب في منطقة الجزيرة، لتقوم الأخيرة بتحويله لمعمل زيت بتكلفة وصلت إلى 6 مليون دولار أمريكي، دون دراسة موضوع المخلفات.

والمعمل مستثمر لخمسة أعوام من قبل “مجموعة شركات الحسن” العائدة ملكيتها لرجل الأعمال “أحمد رشيد”، وله عدة مشاريع في المنطقة. 

يقع المعمل (مركز الحبوب سابقاً)، على الطريق الدولي بين القامشلي والحسكة، ما جعله سابقاً، مركزاً هاماً بالنسبة للمزارعين، كونه يبعد 12 كيلومتراً فقط عن القامشلي و23 كيلومتراً عن بلدة عامودا، وتحويله إلى معمل للزيت، رفع تكاليف نقل المحصول بالنسبة لمزارعي هذه المناطق.

يرى “طارق” أن قرار إنشاء المعمل كان خاطئاً منذ البداية، لأنه أضر بالمزارعين، ويضيف: “القائمين على المشروع غير مهتمين بالبيئة، ولا يملكون الوعي بالمخاطر، هم يريدون الربح، ولا يعرفون غير ذلك”.

حاولنا التواصل مع مالك مجموعة شركات “الحسن” للرد على الوثائق التي حصلنا عليها، لكنه لم يستجب. 

ماذا يقول العلم حول هذا النوع من المخلفات؟

الاسم العلمي للمخلفات (WVO) وهي اختصار لـمخلفات الزيوت النباتية باللغة الإنكليزية، يتسبب التخلص غير الصحيح منها بأضرار جسيمة على البيئة، حيث يتضرر باطن الأرض، وتتسبب بانسداد شبكات الصرف الصحي، كما تتأثر المياه الجوفية والأنهار.

أجرت جامعة “سانتا ماريا” الكندية، اختبارات على المادة وتأثيرها على التربة، وتوصلت إلى أنها تتسبب بانسداد قنوات التهوية للتربة، وفرار الديدان من الموقع المتضرر، إلى جانب أضرار جسيمة بعملية إنبات البذور، كما تتسبب في تغير التركيب الجيني للمزروعات، وتسمم الآبار السطحية والمياه الجوفية.

وأكدت الدراسة أن لهذه المواد أضراراً وخيمة على البيئة والإنسان، لذا ينصح بإعادة معالجتها لتتحول إلى إنتاج الديزل البيولوجي بمعالجة فيزيائية وكيميائية معقدة، بهدف الاستفادة منها.

وفي حالة الإدارة الذاتية، التي تعاني من شبه انعدام الإمكانيات والخبرات اللازمة بالإضافة لصعوبة إيصال أجهزة المعالجة بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد.

وبحسب أكثر من 20 دراسة قمنا بمراجعتها أثناء التحقيق، تنصح جميعها في هذه الحالة باتباع إرشادات علمية بهدف حماية البيئة. تتلخص كالتالي:

أولاً: تخزين المخلفات بشكل صحيح في خزانات: أسلم طريقة للتخلص من المخلفات هي استخدام خزانات وإغلاقها بإحكام لتجنب التسربات التي يمكن أن تضر بالبيئة.

ثانياً: إنشاء حفر مكشوفة في الأرض وطلائها بمادة الألمنيوم لمنع تسرب المادة إلى التربة، وإخضاعها لأشعة الشمس لمدة عام، ومعالجتها بآلات خاصة ورشها على مساحات واسعة في مناطق غير صالحة للزراعة لتقليل آثارها على البيئة.

ثالثاً: إنشاء حفر في الأرض مع التأكد من عدم تسرب المواد ودفنها لعدم اقتراب الأطفال والحيوانات الأليفة منها لما لها من مخاطر عديدة.

هل لوثت المخلفات مياه الشرب؟

في مكتب صيانة قنوات الصرف الصحي في القامشلي، يأخذ المشرف عن المكتب فنر حسن، قلماً وورقة، ويبدأ برسم مخطط الشبكات كما يعرفه، يؤكد أنه أحياناً تختلط مياه الشرب مع مياه شبكات الصرف الصحي، ولكنهم يعالجون المشكلة على وجه السرعة.

ويكشف المشرف أن المنطقة التي تحدث فيها حالات الانسداد في شبكة الصرف الصحي واختلاط مياهها مع مياه الشرب، هي نفسها المنطقة الواقعة في نطاق المنشأة التي يتم تفريغ المخلفات في شبكة صرفها الصحي.

علاوة على ذلك ترتبط شبكات الصرف الصحي في القامشلي، بمحطات تجمع، تصب جميعها في نهر “جقجق”، النهر الوحيد في المدينة، ما يؤدي لقتل الكائنات الحية، وإلحاق الضرر فيها بسبب صعوبة تحلل المخلفات لاحتوائها على مركبات سامة عالية الفعالية.

إضافة إلى ذلك يعتمد مزارعون على مياه النهر في سقاية المزروعات، ما يؤثر على التركيب الجيني للمزروعات، حسب الدراسات التي اطلعنا عليها.

تراخ في محاسبة المتورطين

تمنح هيئة الإدارة المحلية والبيئة في الإدارة الذاتية رخص المشاريع الصناعية “وفق شروط بيئية”، بحسب مسؤولين. 

وتتلخص شروط الهيئة، بأن تبعد المنشأة عن الأماكن المأهولة بالسكان، وتراعي الأراضي الزراعية، وألا تكون قريبة عن مصادر المياه، والتأكد من نوعية المواد الأولية في الصناعة بحيث لا تكون سامة، والتخلص السليم من المخلفات. 

لكن حينما واجهنا بريفان عمر وهي نائبة الرئاسة المشتركة في الهيئة، بالنتائج التي توصلنا إليها حول المعمل، تساءلت: “هل تم مراجعة الجهات المسؤولة قبل إجراء المقابلة؟”

وعلقت بالقول: “هذا المعمل تم مخالفته سابقاً، أنا متأكدة من ذلك ويمكن تقديم الوثائق، مع ذلك لم تحل المشكلة، لذا نحن مسؤولون عن إيقافه”.

تعليق الصورة: وثيقة حصرية، حررت بتاريخ 14 أذار/مارس عام 2022،  تظهر فيها مخالفة هيئة الإدارة المحلية والبيئة معمل كولدن روز، لعدم معالجة المياه الناتجة عن المعمل. 

وفي محاولة للتنصل من المسؤولية تطالب عمر، أن “تكون المتابعة الشعبية أقوى في تقديم الشكاوى”. 

وتقول: “هل قام سكان المنطقة بتقديم شكوى؟ كيف يسمحون لجهة ما بإفساد أرضهم؟”.

 لكن يفيد تقاطع شهادات سكان في القرية، أنهم رفعوا شكاوى مراراً، إلا أن المشكلة لم تحل. 

ويضيف سكان: “اقتنعنا أن المشروع تابع للإدارة الذاتية لذا لا يمكن حل المشكلة”.

ونفت النائبة هذا الاتهام: “ليس مهماً لمن يتبع المشروع بقدر ما يجب الالتزام بالشروط البيئية”.

 وقالت: “هذه مهامنا، سنقوم باتخاذ الإجراءات اللازمة حتى وإن اضطررنا لإيقاف المشروع”. 

وفي اليوم التالي من مقابلتها، أرسلت إلينا النائبة صورة عن مخالفة حررت ضد المعمل بغرامة قدرها 100 ألف ليرة سورية، ما يعادل 12 دولاراً أمريكياً فقط.

وفي ذات اليوم أرسلت إدارة المعمل كتاباً للهيئة تقر فيه بحبس المخلفات في خندق وإرسال صهاريج إلى القامشلي وافراغها في قنوات الصرف الصحي للمدينة، بعد رفض بلدية القرية تصريفها هناك. 

وطلبت إدارة المعمل مهلة 40 يوماً ابتداء من تاريخ الكتاب، لإزالة المخلفات وعزل الحفرة، لكن المثير للاهتمام أن الكتاب يصر على جلب هذه المخلفات إلى القامشلي وإفراغها في قنوات الصرف.

صورة لكتاب من إدارة معمل كولدن روز تقر فيه بحبس المخلفات في خندق وإرسال صهاريج إلى القامشلي وافراغها في قنوات الصرف الصحي للمدينة.

في منطقة ترزح تحت وطأة تلوث بيئي غير مسبوق بسبب تأثيرات الحرب ومخلفاتها وإنتاج المحروقات بطرق بدائية إلى جانب غياب أي شروط بيئية في مختلف الأصعدة، يأتي هذا المعمل ليزيد الطين بلة، في ظل تراكم الفساد الذي بات أبرز سمات سوريا عموماً والتي تتصدر مراتب الفساد في العالم.