اليوم التالي للانتخابات التركية

تشير كل المعطيات إلى أن تركيا أمام منعطف تاريخي – سياسي في الرابع عشر من شهر مايو/ أيار المقبل، وليس مجرد استحقاق دستوري يتعلق بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية فحسب، وعليه تتجه الأنظار إلى معرفة هوية الفائز في هذه الانتخابات، كي يتم تحديد ملامح وعناوين المرحلة المقبلة.

كل المعطيات تشير أيضاً إلى أن المشهد المقبل، محصور بين رجلين، هما رجب طيب أردوغان، وكمال كليجدار أوغلو، حيث يمثل كل منهما رمزية سياسية مختلفة، تشكل محدداً لطبيعة العملية السياسية التي تنتج هوية الدولة وطبيعة النظام السياسي، ومع أن استطلاعات الرأي تشير إلى تقدم كليجدار أوغلو على أردوغان، إلا أنه يصعب البناء على هذه الاستطلاعات التي قد لا تتطابق مع الوقائع أو النتائج، خاصة في بلد أشتهر على مدى التاريخ بوجود ما عُرف بتنظيم الدولة العميقة داخل الدولة، وهو ما قد يؤثر على نتيجة الانتخابات، خاصة إذا فاز كليجدار أوغلو بفارق بسيط على أردوغان، الذي أطلق خلال الأيام الماضية عشرات التصريحات التي توحي بأنه لن يسلم السلطة إلى من وصفهم بالمتحالفين مع الإرهابيين والداعمين لهم، في إشارة إلى كليجدار أوغلو، وإذا ما حصل مثل هذا السيناريو، فإن الانتخابات قد تتحول إلى لحظة انفجار دون أن يعرف أحد كيف ستنتهي الأمور خاصة في ظل الانقسام والاحتقان الحاصلين في الشارع التركي، أو الدخول في جدل دستوري وقانوني بشأن الانتخابات ربما لن ينتهي إلا بإعادة الانتخابات، كما حصل خلال الانتخابات البلدية السابقة في إسطنبول، عندما رفض أردوغان الاعتراف بفوز أكرم إمام أوغلو حيث جرت إعادة الانتخابات فيها.                           

بعيداً عن السيناريو السابق، ماذا يعني فوز كليجدار أوغلو أو أردوغان؟ وكيف يمكن أن يكون شكل الحراك السياسي في ظل رئاسته؟ من دون شك، فوز كليجدار أوغلو يعني الانتقال إلى مرحلة سياسية جديدة ومختلفة، لعل من أهم ملامحها التخلي عن النظام الرئاسي لصالح نظام برلماني، وحكم متعدد للمؤسسات، وتعددية سياسية وإيديولوجية، خاصة أن تحالف الأحزاب الستة يضم في صفوفه أحزاب من مشارب قومية ودينية وديمقراطية ومحافظة وليبرالية، والأهم إطلاق عملية سياسية تعيد إنتاج هوية الدولة والمجتمع والمواطنة، والأهمية هنا تكمن بالضبط في إيجاد حراك سياسي يفضي إلى إيجاد حل سلمي للقضية الكردية، وهو ما إشار إليه كليجدار أوغلو عندما حدد البرلمان مكاناً لإيجاد حل لهذه القضية، ذلك في تقاطع مع ما أكده سابقاً حزب الشعوب الديمقراطي، وهو ما يدفع إلى الاعتقاد بوجود تفاهم ضمني بين حزب الشعوب وطاولة الأحزاب الستة أو على الأقل مرشحها كليجدار أوغلو، حيث كان لافتاً تغريدة صلاح الدين ديميرداش في الرابع عشر من الشهر الجاري، عندما تعهد بالعمل لنزع سلاح حزب العمال الكردستاني إذا فاز كليجدار أوغلو، وهذه رسالة تحمل دلالات سياسية بالغة أهمها إمكانية الدفع بعملية سياسية تؤدي إلى حل القضية الكردية سلمياً، وأن لا ديمقراطية حقيقية في تركيا من دون حل سياسي يقرّ بالهوية القومية الكردية، ويحقق الاستقرار في تركيا والمنطقة، وإذا كان التحدي الأكبر أمام كليجدار أوغلو في الداخل يتعلق بكيفية إعادة التوازن إلى مؤسسات الدولة عبر نزع سيطرة حزب العدالة والتنمية عليها، فإن التحدي الخارجي يتعلق بإعادة الوفاق إلى العلاقات التركية مع الغرب بشقيه الأمريكي والأوروبي، فضلاً عن حلف الأطلسي ( الناتو ).       

 ولكن ماذا لو فاز أردوغان؟ مع أن أجندة أردوغان معروفة، انطلاقاً من سياسته السابقة، وممارساته السياسية، وإيديولوجية حزبه الحاكم، ومواقفه المعلنة ضد الكرد في الداخل والخارج. إلا أن فوزه هذه المرة سيطلق يده في كل الاتجاهات، لاسيما ضد المناهضين لحكمه، خاصة إذا حققت المعارضة أغلبية في البرلمان، إذ إن مثل هذا الأمر سيدفعه إلى التركيز على المعارضة بحجة أنها تعرقل برنامجه السياسي، وهو ما يعني ممارسة المزيد من الإقصاء عبر القضاء، كما فعل مع حزب الشعوب الديمقراطية، عندما دفع البرلمان إلى إصدار قانون رفع الحصانة عن النواب، ليسجن العديد من نواب الحزب، وكذلك قانون الوصي بمرسوم رئاسي لعزل رؤساء البلدين المنتخبين، فضلاً عن محاصرة الحزب عبر سياسة اعتقال كبار قادته، وفرض عقوبات مالية عليه من خلال حرمانه من حصته من خزانة الدولة، وصولاً إلى وضع حظره وحرمان كبار قادته من ممارسة العمل السياسي على طاولة القضاء، وعليه فإن مثل السيناريو قد يعتمده مع المعارضة، لاسيما بعد اتهامه لها بدعم ( بالإرهاب).

بيد أن التحدي الأكبر سيكون في ميدان السياسة الخارجية، إذ إن سياسة التقارب مع روسيا ستزيد من الخلافات مع الولايات المتحدة التي صمتت طويلاً على سياساته ربما على أمل هزيمته في الانتخابات، وعليه؛ فإن فوزه قد ينقل السياسة الأمريكية إزاء نظام أردوغان إلى مرحلة جديدة، طالما أن الإدارة الأمريكية ترى أن أردوغان ذهب بعيداً عن ثوابت العلاقات التاريخية بين البلدين، ويحاول المسّ بالاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، وتحديداً سوريا التي طالب أردوغان مراراً بخروج القوات الأمريكية منها، في ظل استهدافه الدائم لقوات سوريا الديمقراطية الحليفة الأساسية لواشنطن في هذه المنطقة.

 تركيا في لحظة فارقة في اليوم التالي للانتخابات، وهي لحظة تبدو أمام مشهدين، مشهد الانتقال إلى مرحلة مغايرة تحمل معها ملامح حراك سياسي ديمقراطي يعيد تعريف هوية الدولة والمجتمع والمواطنة، ومشهد الانتقال إلى الدكتاتورية المطلقة تأسيساً على سياسة الحزب الحاكم خلال العقدين الماضيين، وفي الحالتين لهما ما بعدهما، ليس في داخل تركيا فحسب، بل في الخارج، لاسيما الجوار الجغرافي، حيث تتداخل قضايا الأمن والسياسة والمصالح والتحالفات.