من الممكن أن تكون سيرة حياة قائد قوات الدعم السريع في السودان محمد حمدان دقلو- حميدتي (مواليد 1975) معبرة عن مسار معين أخذته الحياة السياسية السودانية، ففي بلد حكمته نخبة عربية أتت كلها أو أغلبيتها الكاسحة من المنطقة الممتدة بين العاصمة المثلثة (الخرطوم- الخرطوم بحري- أم درمان) وبين الحدود المصرية، وفي بلد لم يتجاوز العرب فيه نسبة 39بالمئة من السكان عند استقلاله عام1956(كل الأرقام الاحصائية من روزنامة العالم التي تصدر في نيويورك كل عشر سنوات)، اضطرت حكومته المركزية بعد اندلاع تمرد إقليم دارفور في الغرب عام 2003 الذي استند إلى قاعدة اجتماعية من الأفارقة المزارعين للاستعانة بعرب دارفور ومعظمهم من البدو الرحل من رعاة الجمال (الأبّالا) أو من رعاة البقر(البكًارة أو البقًارة) والذين هم في نزاع تاريخي في دارفور مع المزارعين الأفارقة حول الكلأ والماء.
كان حميدتي راعي جمال من قبيلة الزريقات التي كان عمه جمعة زعيمها، وهو لم يتجاوز في مستوى تعليمه الصف الثالث الابتدائي، وقد اشتغل بالتجارة عبر الحدود مع تشاد، ثم انخرط في قوات الجنجويد المستندة لقاعدة اجتماعية بين عرب دارفور والتي ارتكبت مجازر ضد الأفارقة وإحداها متهم بها حميدتي وهي مجزرة قرية عدوة جنوب دارفور بيوم 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2004، وفق تقارير من الحكومة الأميركية والاتحاد الإفريقي ومنظمات دولية لحقوق الإنسان، حيث تمت إعدامات بالمئات واغتصابات للنساء. ووفق تقرير من الحكومة الأميركية فإن قتلى مجازر الجنجويد تتراوح بين 200-400 ألف بين أعوام 2003-2007.
في عام2013 تم إنشاء قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي من نواة قوات الجنجويد وفي عام2017 قام بتشريع وجودها البرلمان السوداني وفق قانون تشريعي اعتبرت مادته الخامسة أنها تخضع “لقانون القوات المسلحة”، وفي عام 2019 جلبها عمر البشير للخرطوم لمجابهة المظاهرات التي أعقبت ثورة ديسمبر 2018 ولكن قائد قوات الدعم السريع شارك قيادة الجيش في انقلاب 11 إبريل 2019 الذي أطاح بالبشير الذي وضع بالسجن وأصبح حميدتي نائباً لرئيس المجلس العسكري الانتقالي ثم في آب/أغسطس 2019 أصبح نائباً لرئيس مجلس السيادة الذي انبثق عن اتفاق المكون العسكري بفرعيه : القوات المسلحة والدعم السريع مع المكون المدني السياسي الممثل في قوى إعلان الحرية والتغيير.
هذه السيرة تقول بأن النخبة العربية الشمالية السودانية لم تكن قادرة على مجابهة تمرد الأفارقة في إقليم جهوي بعيداً عن المركز، لذلك استعانت بقوات جهوية لمجابهته، فيما كانت القوات المسلحة السودانية، بضباطها العرب الشماليون، هم الذين واجهوا التمرد الجنوبي الأول بين عامي 1955و1972 ثم التمرد الجنوبي الثاني 1983-2005 وكان أحد قادة الجيش في الجنوب، العميد في قوات المظلات عمر البشير، هو الذي قاد الانقلاب العسكري بيوم30 يونيو 1989الذي قام به التنظيم العسكري للجبهة القومية الإسلامية بزعامة الدكتور حسن الترابي وأطاح بالحكومة المدنية برئاسة الصادق المهدي.
كان البشير يظن عندما استدعى قوات حميدتي بأنها ستكون ساتراً لحكمه في الخرطوم كما كانت واقياً له في دارفور، ولكن حميدتي هو الذي اعتقله وهو يؤدي صلاة الصبح في مسجد القصر الرئاسي، وعندما اندلعت مظاهرة 3 يونيو 2019 بالخرطوم قامت قوات الدعم السريع بقتل المئات مع سكوت قائد المجلس العسكري الانتقالي الفريق عبدالفتاح البرهان، وهو من الولاية الشمالية شمال الخرطوم مثل عمر البشير وأيضاً قبلهما الفريق ابراهيم عبود قائد انقلاب 1958 فيما جعفر النميري من أم درمان، وقد كان هناك تحالف بين البرهان وحميدتي ضد المكون المدني بعد اتفاق17أغسطس 2019 مع المدنيين والاثنان قاما بتهميش حكومة عبدالله حمدوك ثم شاركا في انقلاب 25 تشرين الأول/أكتوبر2021 الذي كان انقلاباً للعسكر على اتفاق الشراكة مع المدنيين، وكلاهما بعد اتفاق جوبا في تشرين الأول/أكتوبر2020 مع الحركات المسلحة، وهي (حركة العدل والمساواة )بقيادة جبريل إبراهيم و(حركة تحرير السودان) بقيادة أركو مناوي، وهما حركتان من دارفور،و(الحركة الشعبية- شمال)بقيادة مالك عقّار في ولاية النيل الأزرق عند الحدود الإثيوبية، قاما بالاستعانة بهذه الحركات في شق (الحرية والتغيير) وفي استخدام تلك الحركات في دعم انقلاب 25 أوكتوبر2021.
عندما لم يستطع العسكر الانفراد بالسلطة وأُجبروا على الاتفاق مع المدنيين من جديد في الاتفاق الإطاري بيوم 5 كانون الأول/ديسمبر2022، والذي جاء نتيجة ضغوط أميركية ومن الاتحاد الافريقي،انفرط تحالف البرهان وحميدتي. الملفت للنظر أن حميدتي في اتفاق 5 ديسمبر كان موضع استقواء من قبل المدنيين في (الحرية والتغيير- المجلس المركزي )عندما وقفا معاً ضد رغبة الجيش في أن تكون مدة دمج قوات الدعم السريع بالقوات المسلحة مساوية لمدة الفترة الانتقالية في الاتفاق وهي سنتان كما أنهما اجتمعا على موقف موحد في ألّاتخضع قوات الدعم السريع بالفترة الانتقالية لقيادة الجيش بل لقيادة مشتركة من القوات المسلحة والدعم السريع يكون رأسها هو رئيس مجلس السيادة الانتقالي في الاتفاق والذي سيكون من المدنيين فيما كان اقتراح قيادة الجيش أن تكون القيادة المشتركة برئاسة قائد الجيش.
هذا الخلاف الذي لم يحل في الاتفاق الإطاري استمر في الورشة الخاصة بالاصلاح الأمني والعسكري المنبثقة عن الاتفاق حتى انهارت أعمال الورشة في يوم29آذار/مارس،وهو ما منع التوقيع على المسودة النهائية للاتفاق التي كان مقرراً التوقيع عليها في شهر نيسان/إبريل ،ومهد الطريق لانفجار 15نيسان/إبريل2023بين الجيش وقوات الدعم السريع في شوارع العاصمة المثلثة.
هنا،يمكن لحميدتي أن يكون تعبيراً عن ضعف السلطة المركزية أمام خصومها الطرفيين، ويمكن أن يكون تعبيراً أيضاً عن عجزها أمامه، هذا العجز الذي تجسد في استعانة البشير به، ثم استعانة البرهان به، والمفارقة الآن أن تستعين به المعارضة ممثلة في المدنيين في (الحرية والتغيير- المجلس المركزي)، وهم يتألفون من حزب الأمة القومي بزعامة آل المهدي ومن ليبراليي (حزب المؤتمر السوداني) ومن (تجمع المهنيين:أطباء ومهندسون ومحامون)، وهم قوى ثلاثة، لها عداء تاريخي للمؤسسة العسكرية، كانت تتكتك لستة أشهر مضت على استخدام حميدتي ضد البرهان لتحجيم العسكر الذين تربطهم القوى المدنية بالإسلاميين في نظام البشير، ولكنها لم تقدّر بأن صاعق حميدتي الذي استخدمته قد أنتج أكبر تفجير في تاريخ السودان.
عملياً، يمكن القول بأن تفجير 15نيسان/إبريل2023هو انهيار للسودان الذي بدأ في اليوم الأول من عام1956.هذا السودان كان هناك صاعق تفجيري قد سبق ولادته بأربعة اشهر عندما اندلع التمرد الجنوبي الأول ،وعندما تم تسكين هذا التمرد في اتفاق أديس أبابا وأعطي الجنوبيون الحكم الذاتي بعام1972 لم يكن هذا أكثر من تمهيد للتمرد الثاني عام1983،وقد كان الاسلاميون في نظام البشير يقدرون بأن التخلص من عبء الجنوب عبر الموافقة على الانفصال عام2011 سيجعل الحكم المركزي بالخرطوم أسهل للأطراف أو للتفرغ للأطراف المتمردة مثل اقليم دارفور أوجبال النوبة في جنوب إقليم كردفان، ولكنهم لم يحصدوا سوى الخراب.
يبدو أن هذا الخراب كان ناتجاً عن عطل بنيوي في سودان 1956،الذي أثبتت تجربته بأنه لايمكن حكم بلد متعدد القوميات والإثنيات من خلال قومية واحدة هي عرب الشمال. في التسعينيات وبعد انقلاب 30يونيو 1989 ظن الدكتور حسن الترابي بأن الاسلام، الذي يعتنقه سبعون بالمئة من السكان من عرب وأفارقة ونوبيون، هو اللاصق القومي للبلد ومن هنا تسمية تنظيمه بـ(الجبهة القومية الاسلامية) ولكن البشير الذي أطاح بالشراكة مع الترابي عام 1999اعتقد بأن انفصال الجنوب هو الحل بعد فشل الحل الإسلامي للترابي وقبله الحل العروبي عند النميري. أمام كل هؤلاء وضدهم أتى العقيد جون غارانغ زعيم (الحركة الشعبية لتحرير السودان) وطرح فكرة”السودان الجديد”مع بداية حركة التمرد التي قادها عام1983،وهي حركة رغم أنها بدأت من الجنوب، ولكنها لم تكن حركة انفصالية بل حركة أرادت بناء سودان جديد يتساوى فيه المواطنون بغض النظر عن القومية والإثنية والعرقية والجهوية والدين، وقد أيده عرب مثل ياسر عرمان ومنصور خالد ونوبيون مثل عبد العزيز الحلو وأفارقة من النيل الأزرق مثل مالك عقّار، كانوا قياديين في حركة غارانغ، ولكن انفصاليو الجنوب، مثل سيلفا كير وهو يعود إلى حركة (أنيانيا – سم الأفعى) التي قادت التمرد الجنوبي الأول، وانفصاليو العرب، مثل عمر البشير ونائبه علي عثمان طه، قد اجتمعوا ضد “السودان الجديد” لجون غارانغ، وربما كان موته بحادث طيارة عام2005، بعد اتفاق نيفاشا الذي طرح الاستفتاء حول حق تقرير المصير للجنوبيين في البقاء أو الانفصال، مصدر سعادة وارتياح لسيلفا كير وعمر البشير، وكلاهما حكما بعد انفصال 2011 بلدين ممزقين في الشمال بين العرب والأفارقة في دارفور وجنوب كردفان وبين المركز والأطراف والثاني في جنوب السودان بين قبيلتي الدينكا والنوير حيث اندلع النزاع بينهما في جمهورية جنوب السودان عام2013 بعد سنتين من ولادتها.