شغل سؤال: سوريا إلى أين؟ اهتمام عدد من المشتغلين في الحقل الثقافي والعلمي والشأن العام ممن شاركوا في ندوة ” الثلاثاء ” الثقافية التي أقيمت باللاذقية21 أكتوبر/تشرين الأول 2005، في محاولة للإجابة عن هذا السؤال. وبطبيعة الحال لم يكن هناك من جواب واحد، وهذا أمر متوقع، مع أن الحصيلة العامة للحوار كانت تنذر باحتمال انفجار الوضع في البلد. في تلك الأثناء لم يكن أحد يتخيل، مهما جمح به خياله، أن يكون الانفجار بالشكل الذي حصل لاحقاً منذ مطلع عام 2011.
السؤال ذاته كان موضوع نقاش أيضاً بين مجموعات من المشتغلين في الحقل الثقافي والمهتمين بالشأن العام، موالين ومعارضين، في 13أبريل/نيسان 2023، وكما في المرة الأولى حصل في هذه المرة، إذ لم يكن ثمة جواب واحد عن السؤال، مع أن طيف الخيارات قد ضاق كثيراً. اللافت أن أغلب الآراء التي طرحها المشاركون في اللقاء حمّلت النظام المسؤولية الأكبر عما حل بسوريا، كل من منطلقه الخاص، وفي استعادة البعض لحوارات 2005 عدّ ما جرى لها نتيجة طبيعية لنهج النظام ولسياساته العامة.
فيما يخص المخارج المحتملة من الأزمة الراهنة هيمنت الآراء المتفائلة التي تبشّر بأن النظام سوف يتغير، وأنه لا يمكنه الاستمرار في الحكم بالنهج ذاته، وهي تبني آرائها على هول الكارثة التي حلت بالبلد، والتي لا يمكن تلافي آثارها إلا بنظام يتيح مزيداً من الحرية وحكم القانون ومشاركة فئات واسعة من القوى المجتمعية في إدارة عملية الخروج من الأزمة. كنت من القلة القليلة التي بدت متشائمة لجهة أن النظام لن يغير نهجه العام.
للأسف، بات الشعب السوري ونخبه السياسية والثقافية، بعد كل هذا الدمار الذي حصل لسوريا نتيجة الصراع المسلح فيها وعليها، يواجه تحديات كبيرة وهو عاجز عن التفكير بها بهدوء، وعاجز أكثر عن الرد عليها، وذلك بسبب الضغوطات الهائلة التي تمارس عليه إعلامياً وسياسياً واقتصادياً، من قبل جهات داخلية وخارجية عديدة، وتواطؤ قادة النظام معها موضوعياً على الأقل، وفشل المعارضة في تقديم بديل مقنع. وفي خضم هذه الأجواء وما فيها من بلبلة وضياع، بات السياسي وغير السياسي، على حد سواء يتقبل ما تروجه بعض الأصوات، وبعض وسائل الإعلام من سيناريوهات للتغيير، بقي الشعب في جميعها غائباً دوراً ومصلحةً. كل ذلك حصل ويحصل بفضل سياسات النظام التي قضت على الروح السياسية في المواطن السوري، لتنعش فيه الروح البيولوجية الغرائزية، يلاحق لقمة عيشه التي لا يجدها إلا بشق النفس.
أسئلة كثيرة طرحت في عام 2005، لا يخفى طابعها الاستنكاري، من قبيل:
هل يعقل بعد أربعة عقود من حكم البعث، وهو الحزب الذي إدّعى الثورية والتقدم، أن تكون حصيلة حكمه في سوريا مزيداً من الفقر (5.3مليون شخص في حينه يعيش كل واحد منهم بأقل من دولار في اليوم)، ومزيداً من تدهور التعليم والقضاء، والكثير من اليأس وعدم الثقة بالمستقبل.
هل يعقل بعد أربعة عقود من حكم البعث وهو الحزب العلماني كما يدعي، أن يزداد الشعب السوري تمزقاً وانقساماً في عودته إلى هوياته الطائفية والمذهبية والإثنية حتى باتت تهدد وحدته في عيشه المشترك.
هل يعقل هذا الانتشار الواسع للفساد في جميع أجهزة الدولة ومؤسساتها، حتى بات المجتمع كله يدار بالفساد وبآلياته وأدواته.
واليوم أيضاً، بعد أن فاقمت مجريات الأزمة موضوعات الأسئلة السابقة، وكثير غيرها، تتساءل نخب سياسية وثقافية، بل والعديد من الناس العاديين: لماذا يصر قادة النظام على الاستمرار بحكم البلد بعقلية عام 2010، وبالنهج ذاته وخصوصاً الفساد في إدارة الدولة وأجهزتها ومؤسساتها؟
لماذا يتجاهل النظام نصائح بعض أصدقائه، خصوصاً الروس، بضرورة التعامل بجدية من مسار جنيف التفاوضي ومع مخرجات مساري أستانا وسوتشي؟
لماذا يصر النظام على تجاهل وجود قوى مجتمعية وسياسية وطنية لها رأيها في الخيارات المحتملة والمتاحة للخروج من الأزمة؟
لماذا يستمر النظام بتجاهل الحقوق الطبيعية للشعب السوري ومكوناته القومية؟ وهناك أسئلة كثيرة مشابهة.
إن الإجابة الصحيحة عن هذه الأسئلة وغيرها ينبغي أن تنطلق من فهم دقيق لطبيعة النظام الحاكم في سوريا، وليس من هول الكارثة التي حلت بها وكان من أسبابها الرئيسة؛ فالنظام الاستبدادي عموماً، وخصوصاً من الطراز السوري (ذي المنشأ “الثوري الانقلابي”)، لا يكون ولا يستمر إلا من خلال إضعاف المجتمع لصالح تقوية أجهزة الحكم وتعظيم الزعيم. هذا النهج هو النهج الطبيعي للنظام، فهو لا يقيم وزناً إلا لأجهزته، التي يضبطها ويتحكم بها من خلال فتح شهيتها على الفساد، ويحميها بقوانينه.
من المفارقات المثيرة للسخرية ما يتردد في الشارع السوري من أن النظام “طلب العون من السماء فجاءه الزلزال”، الذي يجتهد كثيراً للاستفادة منه في تسويق نفسه، وقد حقق كثير من النجاحات. فها هي الدول العربية تهرول للانفتاح عليه ومساعدته. حتى أمريكا وأوربا جمدت تطبيق قوانين الحصار على سوريا لفترة، بل وسمحت بإرسال المساعدات الإنسانية. اليوم يحسب قادة النظام أنهم انتصروا فيما يسمّونه الحرب الكونية على سوريا، وهم في حالة نشوة سياسية بعد أن قطع تطبيع العلاقات السورية التركية شوطاً كبيراً، وبعد الإعلان عن تطبيع العلاقات بين السعودية وإيران، إذ نص البيان المشترك عن لقائهما في الصين صراحة على تسوية الأزمات في سوريا والعراق واليمن ولبنان. وتجري أيضاً عملية التسوية بين السعودية وسوريا بخطوات ثابتة لكنها مستمرة، والبارحة بالتحديد وصل وزير خارجية السعودية إلى دمشق، وكان نظيره السوري قد زار السعودية الأسبوع الفائت. وبحسب مصادر إعلامية فإن وزير خارجية الكويت سوف يكون في دمشق الخميس القادم. إن جميع هذه المتغيرات تصب في صالح إعادة تأهيل النظام ذاته ضمن المنظومة العربية، وليس تغييره.