كان مشهد مقتل معمّر القذّافي والتمثيل بجثّته واحداً من أفظع وأبشع مشاهد الربيع العربي، لا يبرّره إطلاقاً استبداده وظلمه وما ارتكبه بحقّ الليبيين. ما يمكن استنتاجه من ذلك، أن نَسَق التحديث والتعليم والحكم الذي ادّعى التقدّم والفتوحات في عالم الفكر والممارسة كان مخطئاً، ومخطئاً بعمق؛ لأنّ القبلية والثأر والتعطّش إلى الدم كانت في أحسن حالاتها بعد أربعة عقود مرّت على ثورة/ انقلاب الضباط الأحرار الليبيين بقيادة القذّافي.
أصدر” مؤتمر الشعب العام” في مطلع آذار/مارس ١٩٧٧” دستور الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية”، الذي تضمّن “إعلان قيام سلطة الشعب” وتبشير شعوب الأرض”بانبلاج فجر عصر الجماهير”، انطلاقاً من مبادئ” ثورة الفاتح من سبتمبر العظيمة التى فجرها المفكر الثائر المعلم العقيد معمر القذافي على رأس حركة الضباط الوحدويين الأحرار تتويجاً لجهاد الآباء والأجداد من أجل قيام النظام الديمقراطي المباشر”، وعلى هَدْيِ” الكتاب الأخضر” الذي وضعه القائد وحدّد به ملامح النظام الجديد.
استناداً إلى ذلك المخطط تشكّلت خريطة تنظيم الشعب الليبي بهدف ممارسة الديموقراطية المباشرة، بحيث يعبّر عن ذاته من خلال”كومونات” كانت تضمّ في البداية حوالي مائة شخص في الحيّ أو أيّ تقسيم اجتماعي محدود، يقرّرون بها شؤونهم. كانت لتلك الكومونات” أمانات”، يشكّل مجموعها” المؤتمر الشعبي الأساسي” للمنطقة، كذلك لهذا الأخير أمانته التي تلتقي مع مثيلاتها في المحافظة أو المدينة الكبرى أو الإقليم في “مؤتمر شعبي” ينتخب أمانة لمتابعة قراراته و” لجنة شعبية” بمثابة قيادة تنفيذية إقليمية تستعين بالاختصاصيين والتقنيين في ميدانها أيضاً. تلك الأمانات واللجان مع ممثلي النقابات والتجمعات المهنية أو الجهوية تلتقي في” المؤتمر الشعبي العام” الذي يصدر ما يلزم في إطار”الجماهيرية”، وينتخب أمانة كذلك و”لجنة شعبية عامة” تجمع أمناء اللجان الشعبية الأساسية، وتُعتبَر بمنزلة الحكومة لمن لم يكن يستوعب تماماً ذلك النسق الجديد، من أمثال كاتب هذا المقال.
بقي القذّافي خارج ذلك كلّه، فهو ” القائد” الذي أوجدت قيادته وأفكاره ذلك المخلوق، وبقيت كلمته لا تجد إلّا الخضوع والمديح والانصياع… عملياً كان بذاته مركز السلطة المطلقة التي يستفيد فيها من جهود المؤتمرات واللجان والأمناء، على أن يبقى كلّ شيء مطواعاً أمام الأفكار الجديدة التي تنهمر من الأعلى، وتفاجئ الآخرين من حول القائد، وتنعطف بهم بعيداً عن مسارهم السابق.
رفع” القائد” شعار” شركاء لا أجراء” مثلاً، حيث يملك كلّ الناس كلّ شيء. وفي إحدى الأزمات الاقتصادية تحت الحصار، أذكرأن القذافي أمر بتوزيع ٥٠٠ دولار لكلّ مواطن، لمواجهة الصعوبات الناشئة، في إجراء لا علاقة له بأبسط مبادئ الاقتصاد وحداثته، وعلى طريقة القبيلة أيضاً. خلفية ذلك التوجّه والشعار كانت تحقيق إلغاء نظام الأجرة ذاته.
في رأي بعض الاختصاصيين أن ذلك النظام يمكن إدراجه فكرياً في إطار مفهوم” الأناركية- السنديكالية”، أو الفوضوية- النقابية في ترجمة غير دقيقة. وعلى الأغلب كان كلّ ما صدر عن القائد نتاج جلسات وحوارات استغرقت سنوات الانقلاب الليبي الأولى، مع الكاتب اللامع- العبقري في واقع الأمر- الصادق النيهوم، الذي كان بوضوح والتزام أناركياً لا يُشق له غبار، بعد أن عاش سنوات من عمره في أوروبا ولبنان، وكان مثقفاً مبدعاً تعرّفنا عليه بين كتّاب مجلة الناقد لاحقاً، وعلي بعض كتبه الذي أصدره رياض نجيب الريّس.
معظم ما ورد بقلم أو لسان القذّافي يمكن إيجاد جذوره لدى الصادق النيهوم، ممّا سبق أعلاه، ومن طريقة اعتماد القرآن أساساً للتشريع مع” العُرف” والفطرة. ورد ذلك في الفقرة” ثانياً” في إعلان قيام سلطة الشعب، وفي الفقرة” ١٠” من” الوثيقة الخضراء الكبرى لحقوق الإنسان”، التي دخلت في جسم الدستور، مع الإعلان المذكور.
في كتابه” الإسلام في الأسر”، شرح الصادق النيهوم أن” الجامع” هو أهم ما جاء به الدين من أسلوب ديموقراطي في تنظيم حياة المجتمع. الجامع من حيث كونه مكاناً للقاء أهل المنطقة المجاورة حتى يتباحثوا في شؤونهم، خارج مفهوم” المسجد” المتعلّق بالصلاة. جوامع المجتمع الإسلامي هي أصول قديمة للكومونات الحديثة، التي وردت في فكر القرن التاسع عشر، وتجسّدت سابقاً في باريس وكومونتها الشهيرة التي عاشت تسعين يوماً عام ١٨٧١، وتمركزت حولها كتابات عدة أبرزها ما وضعه كارل ماركس في” الحرب الأهلية في فرنسا”، في تعبير واضح عن عدم تناقضه مع الأناركية في الكثير من مواضيعها الأساسية. كان بلانكي أهمّ مفكّر للكومونة وقائد ميداني، وكان بدوره أناركياً وثورياً بارزاً.
ما زال برنامج الاعتماد على تنظيم الكومونات أو ما في حكمها، يتردّد لدى العديدين على هذه المعمورة، وخصوصاً في مناطق يتركّز فيها سكّان أصليون أو سكّان ذوو قرابة عرقية أو أصل واحد. يحدث هذا في مقاطعة تشياباس جنوب المكسيك وفي منطقة جنوب شرق إيطاليا تعيش فيها جالية صغيرة تتعايش بحرية، بعد أن كانت قد جاءت من اليونان هرباً من الاضطهاد منذ القرن التاسع عشر أيضاً… وغيرها.
الأناركية بدورها تعني لغوياً مقولة اللا- سلطة أو اللا-حكومة، ثمّ أصبحت اللا- دولة. في حين تعني اللاسلطوية النقابية فلسفة سياسية ومدرسة فكرية أناركية تنظر إلى النقابية الصناعية الثورية أو النقابية كطريقة يستطيع العمال في المجتمع الرأسمالي من خلالها السيطرة على الاقتصاد وبالتالي التحكّم في التأثير في المجتمع الأوسع. الهدف النهائي للنقابية هو إلغاء نظام الأجور، معتبراً إياه عبودية للأجور. تتمحور تلك الإيديولوجيا على فكرة أن السلطة مفسدة، وأن أي تسلسل هرمي لا يمكن تبريره أخلاقياً ولا بدّ من تفكيكه. وقد أخذت بالتأثير في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وبعده، في إسبانيا وكوبا والمكسيك والولايات المتحدة، في حين استطاعت الديموقراطية- الاجتماعية أن تسود في أوروبا. في حين شكّلت الاشتراكية الليبرتارية مترادفة أخرى للأناركية منذ أواخر القرن التاسع عشر، وأصبح كلمة الليبرتارية وحدها معتمدة كبديل إلى حد ما منذ أواسط القرن العشرين.
يمكن للنقابات أو الجماعات المهنية مع الجوامع ( الكومونات) أن تكون أداة الديموقراطية المباشرة، والفعل المباشر. تلك أفكار الصادق النيهوم أيضاً ومعمر القذّافي، تمّ تجسيدها على طريقة الأخير وحسب طموحاته في الكتاب الأخضر ونموذج الحكم في ليبيا.
غير معروف تماماً ما إذا كان النيهوم قد كتب شيئاً من الكتاب الأخضر أو كَتبه كلّه، أم أن القذّافي ومعاونيه قد قاموا بذلك اعتماداً على خلاصات حوارات الرجلين في السنوات الأولى من الانقلاب العسكري. شيء واحد يبدو مؤكّداً، هو أن الصادق النيهوم أكثر” عضوية” مع تلك الأفكار والاستنتاجات، وأكثر وضوحاً وانسجاماً في استلهام القَبَلية والعُرف، وكان ذلك مغطىً بالكثير من تعبيرات التحديث المرتجلة لدى القذّافي، الذي انهمك في العقد التالي في ترويج “النظرية” والجلوس في ساعات الليل المتأخرة إلى بعض “الجماهير” لشرح رؤيته للأمور، أمام شاشة التلفزيون الليبي…في حين ابتدأ اكتئاب النيهوم منذ منتصف السبعينات مباشرة،وأصدر كتباً كان أكثرها التماعاَ” الإسلام في الأسر- مَن سرق الجامع؟ وأين ذهب يومُ الجمعة؟”، بعد صدور الكتاب الأخضر بزمن.
أثبتت التجربة الليبية ما لا يريده المنظّرون من أصحاب تلك الرؤى، عندما أصبح ممكناً تمويهُ التأخّر بالكلمات الكبيرة، وتمويه الاستبداد والتعسّف بالديموقراطية المباشرة… وهذا ليس عادلاً تماماً، لكنّه جدير بالتأمّل!