الكتابة السياسية

كنت بالسنة الثانية في العام الدراسي 1976-1977بقسم اللغة الإنكليزية من كلية الآداب في جامعة حلب. كانت هناك مادة اسمها مادة الاستيعاب  comprehension للنصوص  texts، وكان يدرسنا إياها أستاذ – دكتور أجنبي (ثم أتت بعد أشهر بدلاً منه في تدريس المادة  أستاذة – دكتورة أجنبية كانت زوجة لرئيس القسم الأستاذ- الدكتور عزيز سليمان وهو مصري)، وهي مادة تشمل وتختص بمعالجة النصوص اللغوية والأدبية من مسرح ونثر وشعر ومقالة أدبية وأيضاً النصوص الثقافية والسياسية. هذا الأستاذ هو الذي عرًفنا على (نظرية القراءة)، وكانت حديثة الظهور بعد أن قدمها الأكاديمي الألماني فولغفانغ إيسر من خلال دراسته لبعض نصوص شكسبير حيث رأى أن “المعنى لايوجد في النص، بل هو فعل تفاعلي بين النص والقارىء”، في استناد منه على نظرية (موت المؤلف)، التي قدمها الأكاديمي الفرنسي رولان بارت أواخر عقد الستينيات، والتي تقول بأن “مصائر النص” تصبح “مستقلة عن المؤلف بعد انتهائه منه” وأنه يصبح “مفصولاً عنه”، وقد كان يوجهنا أستاذنا إلى أن “ليس هناك من مدارس للنقد الأدبي” بل ” تفاعل ذاتي وفق نظرية القراءة  من الناقد مع النص الأدبي والفني حيث يعيد القارىء- الناقد تشكيل النص من جديد ويراه من زاويته ” وقد نصحنا بأن نشتري الملحق الأدبي من جريدة ” التايمز ” البريطانية وقد كنا نشتريها مع الملحق كل أسبوع من مكتبة الشهباء بشارع بارون مقابل مقهى الموعد.

في مادة الاستيعاب كان النص السياسي، الذي يمكن أن يكون في جريدة أو مجلة أو بحث أو كتاب سياسي، يقسم وفق أستاذنا المذكور إلى خمسة عناصر تشكل مبنى النص، وهي:1- منهج التحليل 2- المعلومات المستخدمة 3- الاستخلاصات المستنتجة من تفعيل المنهج مع المعلومات 4- قدرة النص على القبض المعرفي  appropriation على الوقائع السياسية الماضية والراهنة  facts  والتي هي في اللغة الانكليزية مختلفة عن مصطلح الحقائق realities من حيث أن الوقائع هي ليست حقائق مادامت متحركة وهي نسبية وفق الزمان والمكان 5- قدرة النص على التنبؤ بالوقائع القادمة .

بهذا الصدد، يجب أن يكون مبنى النص، في الحد الأفضل، مؤلفاً من تلك الطوابق الخمسة، ولكنه لن يكون نصاً إن لم يكن له الطوابق الثلاث الأولى على الأقل ودرجته الجيدة  تتحدد بمدى امتلاكه الطابق الرابع على الأقل والأجود إن امتلك الطابق الخامس.

يمكن هنا أن تكون مناهج التحليل مختلفة، ففي الماركسية تعالج السياسة بوصفها محركة من عوامل المصلحة وتوازنات القوى، وفي منهج التحليل البراغماتي الذي يستخدم من اليمين السياسي، سواء كان ليبرالياً أوفاشياً- نازياً أوعند اليمين الجديد، تعالج الفكرة السياسية أو يتم قياسها وفق النتيجة الاستخدامية لها وليس وفق مضمونها. هناك مناهج أخرى كانت تستخدم في الغرب الحديث، ولكنها اندثرت بعد كارل ماركس (توفي عام1883) وويليام جيمس مؤسس البراغماتية (توفي1910)، مثل المنهج الحقوقي الذي يعالج العملية السياسية وفق معيار الحقوق والمبادىء، أومثل المنهج الأخلاقي الذي يرى الحلبة السياسية ميداناً للصراع بين الخير والشر، أو المنهج الثقافي للسياسة الذي يرى السياسة وسيلة تطبيقية عملية لأفكار ثقافية أو نصوص فكرية كأن يرى بأن الأحزاب الشيوعية هي في سياساتها تشتغل كمسطرة من أجل تطبيق “البيان الشيوعي” أو الحزب النازي هو تطبيق لكتاب “كفاحي” لهتلر،أو حزب البعث بوصفه يسعى إلى تطبيق كتاب “في سبيل البعث” لميشيل عفلق .

في الماركسية تعالج المبادىء والحقوق والأفكار وفق المصالح وتوازنات القوى، وفي البراغماتية تعامل وفق نتائجها الاستعمالية. عند أمم متخلفة، مثل العرب والأتراك، مازال منهج التحليل الحقوقي والأخلاقي سائدان في عملية التحليل السياسي والنظرة للعملية السياسية، وأحياناً المنهج الثقافي عند البعض القليل حيث يوجد منهج تحليلي يعتبر السياسة تطبيقاً لمقولات فكرية- ثقافية ولكن ذلك التحليل لا يوجد في نصه معلومات ووقائع وأرقام  بل معالجة للفكرة السياسية  بالفكرة الثقافية، وهو أكثر مايلاحظ  عند أكاديميين ومثقفين عندما يحاولون كتابة مقالات سياسية والتي تكون منخفضة المستوى عن كتاباتهم الأكاديمية أوالفكرية –  الثقافية، وهو مايلاحظ في حالتي إدوارد سعيد وبرهان غليون، فيما لا يلاحظ انخفاض مستوى المقالات السياسية عن الكتابات الفكرية – الثقافية عند أشخاص تمرسوا بالعمل السياسي المباشر عبر الأحزاب مثل ياسين الحافظ وفؤاد مرسي .

عملياً، يتم التعامل في الماركسية والبراغماتية مع السياسة بوصفها “مملكة الأفعال الموضوعية”حيث يبنى الفعل السياسي للذات السياسية الفاعلة وفق توازنات القوى في “الموضوع السياسي” وتحدد عملية تحقيق الهدف وفق تعريف للسياسة بأنها “إدارة الممكنات” وتتم تلك العملية وفق “التمرحل”، أو وفق حتى مايراه ماركس من أن “العنف هو القابلة القانونية (الداية) mid-wife للتاريخ” حيث لا يستطيع العنف (أو الثورة) التوليد إن لم يكن هناك حبل ووصول للطلق ولحظة الولادة ومع ملاحظة أن هناك أحياناً  نساء تلدن من دون الداية، وهذا يعني أن تحقيق الهدف لايتم  وفق منطق النزعة الرغبوية أو الإرادوية ولا وفق مايسميه  الماركسيون  بـ “النزعة المغامرة” التي لاتراعي وتحسب وتشتغل وفق التوازنات القائمة.

من هنا، لم نعد نجد في نصوص الصحافة الغربية،الأوروبية والأميركية، عبارة “إنني أرى “و”إنني أعتقد”،بل هناك عملية ذوبان لشخصية الكاتب واخفاء لذاته أثناء التحليل، لأنه لايرى السياسة عملية ذاتية بل موضوعية تدخل الذات فيها لتبيان حركية الموضوع، وهو يحاول عبر النص القبض أوالاستيعاب المعرفي لهذه الحركية، لذلك هو لا يطلق أحكام قيمة ولا يتصرف بوصفه قاضياً أوحكماً في مباراة لكرة القدم لتحديد المخالفات وضربات الجزاء ويستخدم الكارت الأصفر أوالأحمر ولا يسب ولا يشتم ولا يدين ولا يتعامل مع السياسة بأنها مؤلفة من معسكرين يتصارعان هما (معسكر الخير) و(معسكر الشر)، أو(الأصدقاء)  و(الأعداء)، أو(الأبطال ) و(الخائنون)، كمافي أفلام الكاوبوي.

إذا رجعنا إلى تلك المعايير أوالمحددات أوالطوابق الخمسة للنص السياسي فيمكن الحكم من خلالها ليس فقط على مستوى النص وإنما أساساً على مستوى صاحب النص، الذي يجب وفق تلك المعايير، وخاصة الثلاثة الأولى، أن يشترط امتلاكه للفلسفة والتاريخ، وبدونها  سيكون في (الفكر اليومي) وفق تعبير مهدي عامل، حيث يكون  الذين يقعون في (الفكر اليومي) في وضعية التبدل وفق وقائع الأيام، وهو فكر يقع فيه الكثيرون وخاصة في عصر الفضائيات.

على ضوء هذا الرجوع للمعايير المذكورة، يمكن  أن لايستخدم المرء نظرية (موت المؤلف) بالمعنى الذي قصده رولان بارت، وإنما بمعنى آخر للدلالة  على موت آخر للمؤلف، حيث يمكن القول، وخاصة تجاه العديد من الكتًاب، في الصحافة والمواقع الإلكترونية الناطقة باللغة العربية، بأن أكبر عقوبة لهم هي نشر نصوص متعددة لهم بتمامها كنصوص مع تاريخ ومكان النشر لتبيان مدى عدم وصول كراتهم ليس فقط إلى شباك مرمى الوقائع بل وأيضاً حتى إلى الأخشاب الثلاث للمرمى وحتى لعدم وصولها إلى خط ال16.

وبالتالي، هناك سؤال برسم القائمين على الصحف والمواقع الإلكترونية: هل يمكن تطبيق تلك المعايير على  نصوص كتًاب  الكتابة السياسية؟