دمشق – نورث برس
بدأ العد التنازلي للانتخابات التشريعية والرئاسية التركية المقرر إجراؤها يوم 14 أيار/ مايو المقبل، وهي انتخابات تاريخية ومصيرية لعدة أسباب لاحقة الذكر، بينما سارعت التحالفات الكبرى والأحزاب الصغيرة على حد سواء إلى تعزيز الاصطفافات بأسماء قديمة وأخرى جديدة وتقديم المرشحين البرلمانيين إلى الهيئة الانتخابية، استعداداً لمنافسة قد تقلب الخارطة السياسية التركية رأساً على عقب.
وتستقطب هذه الانتخابات أنظار العالم لما لها من أهمية كونها تأتي بعد أكثر من 20 عام على سطوة حزب العدالة والتنمية على الحكم، تخللتها تطورات داخلية كبيرة بما في ذلك الانقلاب المزعوم، كما فتحت علاقات مثيرة للجدل وأغلقت أخرى مع دول الجوار والعالم.
ومن المقرر أن تفتح تركيا صناديق الاقتراع في دورتها الثامنة والعشرين أمام واحدة من أهم الانتخابات في تاريخها، وفيها يواجه حزب العدالة والتنمية بقيادة الرئيس الجالي رجب طيب أردوغان جبهة معارضة كبيرة.
وحتى التحالفات التي تشكلت بحسابات دقيقة للمنافسة على نسبة 50 زائد 1٪ وقوائم المرشحين المعدة هي مؤشر على أن السباق سيمر بضراوة، فيما تتجه الأعين إلى استطلاعات الرأي لعام 2023 لشركات الأبحاث.
تحالفات تدخل الحلبة بقوة
أسس الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “تحالف الشعب” بقيادة حزبه وشريكه حزب الحركة القومية، يضم أيضاً حزب الاتحاد العظيم وحزب الرفاه وحزب القضية الحرة والحزب الديموقراطي الموالي وحزب اليسار الديمقراطي.
ووضع حزب العدالة والتنمية التركي أسماء 15 مرشحاً في أعلى قائمته هم وزراء في حكومته الحالية، بينما تم ترشيح 104 من أصل 181 من نوابه الحاليين في البرلمان.
وأصبح وزير الداخلية سليمان صويلو على رأس القائمة في المنطقة الثانية بإسطنبول، ووزير العمل فيدات بلجين في المنطقة الثانية بأنقرة، ونائب الرئيس فؤاد أوكتاي في المنطقة الثالثة في أنقرة ووزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو على المرتبة الأولى في أنطاليا.
وانتهج حزب أردوغان وتحالفه سياسية الاهتمام بوزرائه وشخصيات مسؤولة في البلاد على رؤوس قوائمهم في المحافظات، إذ يعتقد أن لهم شعبية جمعوها خلال السنوات الماضية من الحكم، بما في ذلك كونهم كانوا أذرع أردوغان للسيطرة على مفاصل الحكم في البلاد.
كما يجمع التحالف توجهين بنزعة قومية وأخرى إسلامية، فيعتقد كما العادة بأنه سيتمكن من كسح منافسيه.
أما كتلة تحالف الأمة المكونة من ستة أحزاب، بقيادة كيليجدار أوغلو زعيم حزب الشعب الجمهوري إلى جانب الحزب الصالح، فقد كشفا عن قائمتهما بعد أن أكدت في وقت سابق أربعة أحزاب أصغر في الكتلة “حزب الديمقراطية والتقدم، حزب المستقبل، حزب السعادة والحزب الديمقراطي” أن مرشحيها سيكونون تحت شعار حزب الشعب الجمهوري وهو الأكبر عدداً داخل التكتل.
وتدخل الأحزاب الأربعة الصغيرة في قائمة حزب الشعب الجمهوري بـ 29 مرشحًا من 15 مقاطعة.
في حين أن الحزب الصالح، ثاني أكبر حزب في الكتلة، مصمم على التنافس مع مرشحيه تحت شعاره بعدد من المقاطعات بشكل مستقل، وأخرة مع التحالف.
وبين هذا وذاك، قرر حزب الشعوب الديمقراطي المشاركة في الانتخابات من قوائم حزب “اليسار الأخضر” كإجراء احترازي ضد قضية الإغلاق، بدلاً من الدخول في الانتخابات بشعاره الخاص.
ولم يتمكن حزب الشعوب الديمقراطي من المشاركة في الانتخابات تحت اسمه، حيث لا تزال قضية الإغلاق ضده مستمرة، وهذا ما دفعه للمشاركة في الانتخابات داخل قوائم حزب اليسار الأخضر من 81 محافظة وجميع الدوائر الانتخابية.
في هذا السياق، تم ترشيح الرئيسان المشاركان لحزب الشعوب الديمقراطي مدحت سنجار من ولاية شانلي أورفا وبروين بولدان من ولاية وان، في قائمته باسم “اليسار الأخضر” في تحالف “العمل والحرية”.
هذا ويضم تحالف “العمل والحرية” كل من “حزب الشعوب الديمقراطي، حزب العمال التركي، حزب العمل، حزب الحركة العمالية، حزب الحرية المجتمعية وحزب اليسار الأخضر واتحاد البرلمان الاشتراكي.
ومن شأن هذا التحالف أن يضعف عدد مقاعد الحزب الحاكم، ويكون بيضة قبان في العملية السياسية المقبلة، في حال لم يتمكن أحد المتنافسين (تحالفا الشعب والأمة) من حسم النتيجة في الجولة الأولى من الانتخابات.
أهمية داخلية ودولية
لعل أكثر صفة مشتركة في مجمل التقارير الصحفية المحلية والدولية لهذه الانتخابات هي مفردة “مصيرية”، والسبب يعود إلى أن النتيجة بجميع احتمالاتها تمثل مرحلة خمس سنوات جديدة لدولة لطالما أثارت الجدل على المستويين الداخلي والخارجي.
داخلياً، هو أن هذه الانتخابات تأتي بعد أكثر من عقدين من الزمن على حكم إسلامي وشريك ذو نزعة قومية عززا نفوذهما على جميع منافذ الحكم والسلطات الثلاث.
وخلال هذه السنوات شهدت تركيا أزمة اقتصادية غير مسبوقة وانهياراً لعملتها، بينما عانى قطاع الصحافة قمعاً، ووصفت الدولة التركية لأكثر من مرة بأنها سجن كبير للصحفيين.
وبخصوص القضية الكردية، واجهت القوى الموالية لها أشرس مرحلة قمع لمواطنين وقيادات عليا، فضلاً عن حملة عسكرية على مدن كردية عام 2015، بعد نسف مفاوضات السلام مع الكرد عام 2013.
وعلى مستوى خارجي فإن هذه الانتخابات إذا خسر فيها أردوغان من شأنها أن تحدد شكلاً جديداً من العلاقات مع المحيط الإقليمي بعد سنوات من النزاعات في الشرق الأوسط، وخلاف مع الغرب والتقارب مع روسيا.
وحظي أردوغان بولاء من بعض القوى العربية الإسلامية المتشددة، بعد دعمه الملحوظ لاخوان المسلمين وتدخله الصارخ في ما يسمى “ثورات الربيع العربي”، ولازال له أثر في سير العلاقات مع كل من سوريا وليبيا ومصر ودول الخليج العربي، رغم مساعيه الأخيرة في تصفير المشاكل مع كل من ذُكر.
وبالنظر إلى ذلك والصراع الدائر في الشرق فإن احتمالية الفوز والخسارة ستساهمان في رسم خارطة علاقات جديدة في المنطقة.
وتشير بعض الصحف التركية في تقارير نُشرت مؤخراً، إلى أن الولايات المتحدة تنحاز إلى المعارضة التركية دون الاستناد إلى وثيقة ملموسة.
لكنها جاءت مدعومة بمزاعم أن أردوغان لم يلتزم بمواقف غربية مشتركة منها العلاقة المشبوهة مع الروس وكذلك ضعف مواقفه تجاه أوكرانيا، فضلاً عن محاولة عرقلة انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، وخلافات حول المسألة الكردية في سوريا وتوجهه نحو التطبيع مع دمشق برعاية روسية.
وما تدعم هذه الرواية إلى حد واقعي، هو لقاء السفير الأميركي لدى أنقرة مع زعيم جبهة المعارضة التركية بقيادة كليشدار أوغلو، قبل أيام، وحينها قال أردوغان إنه سيلقن الولايات المتحدة درساً بفوزه، وأن أبوابه مغلقة أمام السفير الأميركي.
وورد في الوثيقة الروسية الجديدة التي صادق عليها الرئيس بوتين مطلع الشهر الجاري، تطوير التعاون “واسع النطاق والموثوق مع إيران، وتعميق الشراكات متعددة الأوجه ذات المنفعة المتبادلة مع تركيا”.
هذه الإيمائات تشير إلى أن علاقة تركيا بقيادة أردوغان مع الحلفاء لم تعد وثيقة، وقد لمح إلى ذلك رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس بوب مينينديز أكثر من مرة.
ويوجد داخل الإدارة الأميركية الحالية جهات ترفض بالفعل منح طائرات الـ أف 16 لصالح تركيا التي تواصل حسب رؤيتهم بتقويض القانون الدولي، وتجاهل حقوق الإنسان والأعراف الديمقراطية، فضلاً على سلوكه المقلق والمزعزع للاستقرار في تركيا، وضد حلفاء الناتو في الجوار.
آلية الانتخابات والتنغيرات الدستورية
كان أردوغان قد قرر تقديم موعد الانتخابات في تركيا عن موعدها حوالي شهر، إذا أنه بحلول 24 حزيران/ يونيو، تنقضي مدة خمس سنوات على انتخابات البرلمان والرئاسة في تركيا.
ويتم انتخاب رئيس تركيا، وفق النظام الانتخابي الذي طبق لأول مرة في الانتخابات الرئاسية لعام 2014، عندما حل محل نظام الانتخابات غير المباشرة الذي تم بموجبه انتخاب الرئيس من قبل البرلمان.
وبموجب هذا النظام يتم انتخاب الرئيس مباشرة من خلال جولتين، الذي يتعين بموجبه على المرشح أن يحصل على أغلبية مطلقة من الأصوات لكي يُنتخب.
وفي حال لم يؤمن أي مرشح الأغلبية الشاملة بشكل قاطع، تجرى جولة الإعادة بين أكثر المرشحين اللذين تم التصويت عليهما من الجولة الأولى، ثم يتم إعلان انتخاب الفائز بها.
ويتولى الفائز رئاسة الدولة والحكومة سويةُ، ويخضع الرئيس لحدود زمنية للخدمة، وقد يقضي فترتين متتاليتين على الأكثر خمس سنوات.
ومع ذلك، دبر الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان خطة تتيح له لأن يكون مرشحاً رئاسياً للدورة الثالثة في عام 2023، نظراً لأن النظام الرئاسي التنفيذي الحالي لم ينفذ تنفيذاً كاملاً إلا بعد انتهاء فترة ولايته الأولى، مما يعني أن فترة حكمه من عام 2014 إلى عام 2018 لن تحتسب إلى حد فترتي ولايته الثانية.
وكانت الانتخابات العامة التركية السابقة التي جرت في 24 حزيران/ يونيو 2018 بمثابة مرحلة تحول البلاد من نظام برلماني إلى نظام رئاسي عبر الاستفتاء الدستوري المثير للجدل عام 2017.
وأسفرت تلك الانتخابات عن فوز الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، الذي شغل المنصب منذ عام 2014. رغم أنه في الوقت نفسه، خسر حزب العدالة والتنمية الحاكم الأغلبية المطلقة في البرلمان، مما دفعه إلى الاعتماد على حليفه، حزب الحركة القومية بزعامة دولت بخجلي لتمرير التشريع.
و تم إلغاء منصب رئيس وزراء تركيا في 12 تموز/ يوليو 2018.
وسينتخب الناخبون رئيساً جديداً بالإضافة إلى 600 عضو في الجمعية الوطنية الكبرى (البرلمان) كل منهم لمدة خمس سنوات.
استطلاعات رأي
تقوم شركات استطلاع عدة عاملة في تركيا بمهامها على قدم وساق، رغم التباين في نتائجها بنسب ضئيلة.
فوفقاً لاستطلاعات الرأي التي قدمتها شركات تركية مختصة في نيسان/ أبريل الجاري، حصل مرشح تحالف الشعب رجب طيب أردوغان على مستوى انتخابات الرئاسة على 44.6٪ من الأصوات ، بينما حصل كمال كيليجدار أوغلو على 42.9٪، ما يعني أن النتيجة تقود إلى جولة ثانية ليتمكن أحد المرشحين من تجاوز عتبة 50 زائد واحد.
لكن بالنظر إلى استطلاعات الرأي التي أجريت في أذار/ مارس الفائت، صار متوسط كيليجدار أوغلو 51.8 في المائة ومتوسط أردوغان 43.1 في المائة.
وبمقارنة استطلاعات بين الشهر الحالي والفائت، فمن الواضح أن المناقشات التي دارت على طاولة المحادثات السداسية الشهر الماضي أنتجت صورة لصالح حزب العدالة والتنمية، حيث زاد حزب العدالة والتنمية أصواته بأكثر من 6 نقاط. وارتفع متوسط أصوات الحزب التي كانت 32.2 بالمائة في آذار/مارس، إلى 38.8 بالمائة في نيسان/ أبريل.
وانخفضت أصوات حزب الشعب الجمهوري البالغ عددها 28.8 إلى 23.2 أثر خروج زعيمة الحزب الصالح ميرال أكنشنير من الطاولة السداسية، بسبب اعتراضها على المرشح الرئاسة كليجدار أوغلو.
لكن رغم ذلك، فقد ظلت زعيمة الحزب الصالح تشارك في قائمة تحالف الشعب (الجمهوري) في عدد من المحافظات، وأخرى تخوضها لوحدها كحزب مستقل.
ومن المتوقع بحسب استطلاعات رأي، أن يتمكن حزب الشعوب الديمقراطي الذي سيخوض الانتخابات تحت اسم تحالف “اليسار الأخضر” من حصد 10.3% من الأصوات.
وأهمية هذا الحزب والمتحالفين معه، تكمن لاحقاً في أن تتحول إلى بيضة قبان في أروقة البرلمان المقبل، ليشكل ربما مع تحالف الأمة، نسبة أكثر من 50% من عدد النواب، فيقف حاجزاً أمام تشريعات العدالة والتنمية.