فيفا زاباتا.. فيفا زاباتيستا

في فتوّتنا، لم نكن نعرف اسم المخرج الأمريكي الأسطوري إيليا كازان، وأسماء مارلون براندو وأنتوني كوين هي التي جذبتنا إلى حضور فيلم”فيفا زاباتا”، الذي توقّعنا أنه من نوع” الويسترن” الذي كنّا نهواه. لكنّه كان شيئاً آخر لم أنسه وبعض لقطاته وما ورد فيه طوال الخمسين عاماً الماضية.

إيمليانو زاباتا كان شاباً مكسيكياً بجينات مختلطة، ابتدأ النضال من أجل حقوق المزارعين، ثمّ أسهم بكفاءة وشجاعة مع سانشو فيلا وآخرين في ثورة ١٩١١، التي أطاحت بديكتاتورية الرئيس دياز وقتها، وأحلّت مكانه الرئيس الضعيف ماديرا، الذي وقع تحت تأثير العسكريّ هويرتا، والذي لم يأخذ وقتاً طويلاً حتى أطاح به بدوره وقبض على الحكم بيدٍ حديدية. استمرّ زاباتا على عهده الثوري حتى اغتياله عام ١٩١٩. وأصبح بعدها رمزاً للثورة وحقوق الفلاحين والفقراء في بلده وخارجه، خصوصاً ما بين السكان الأصليين من سلالة المايا وغيرها.

انتعشت تلك الروح الثورية والتغييرية في السبعينات من القرن الماضي، وعادت روح زاباتا واسمه يُحوّمان في أجواء المكسيك   في نهاية الستينات، بعد أن حكم الحزب الثوري المؤسّساتي منذ عام ١٩٢٩ من دون توقّف، واستمرّ حتى العام ٢٠٠٠، كما فعل حزب البعث في سوريا. تأسست جبهة التحرير الوطني في المكسيك آنذاك، مستندة إلى الإرث الثوري الزاباتستي. ودخلت هذه الجبهة في تفاعل وتبادل مع جماعة “لاهوت التحرير” بما هو مفيد للطرفين.

بعد مواجهات مريرة مع الجيش المكسيكي في السبعينات، تجمّدت قدرات تلك الجبهة لفترة، حتى ظهرت محاولة جديدة في أوائل الثمانينات، وتأسس جيش زاباتا للتحرير الوطني، معتمداً على مقاتلين من أكثر من مكان، بمن فيهم أولئك المتحدّرين من السكان الأصليين، في منطقة تشياباس أقصى جنوب البلاد، التي ابتدأ اسمها يظهر أكثر فأكثر في الأخبار.

في عام ٢٠٠٠ انتُخب رئيس من خارج الحزب الحاكم للمرة الأولى، ودعا إلى الحوار والتفاوض مع الزاباتيستا. لكن هؤلاء رفضوا الموافقة ما بقيت قواعد عسكرية في تشياباس، الأمر الذي دفع بالرئيس الجديد إلى توجيه أوامره بسحب الجيش كله من هناك. وابتدأت حوارات تخلّلتها موجات من التوتّر والاسترخاء، سمحت للزاباتيستا بأن يؤسّسوا حكمهم المحلي بشكل فعال ولافت بخصوصيته، وأخذ يتمتّع بإعجاب ودعم من قوى يسارية عديدة في العالم.

في ٢٨ يونيو/حزيران ٢٠٠٥، تقدم الزاباتيستا بالإعلان السادس لغابة لاكاندون، معلنين مبادئهم ورؤيتهم للمكسيك والإنسانية. كرر ذلك الإعلان دعمه للشعوب الأصلية، التي تشكل ما يقرب من ثلث سكان تشياباس، ووسّع القضية لتشمل “جميع المستغَلين والمحرومين في المكسيك”. كما أعرب عن التعاطف مع الحركة الدولية للنضال ضدّ العولمة، ودعَم الحكومات اليسارية في كوبا وبوليفيا والإكوادور وأماكن أخرى، على أساس وجود قضية مشتركة معها.

ظهر إعلان غابة لاكاندون الأول لجيش زاباتيستا في ١ يناير/كانون الثاني ١٩٩٤، اليوم الذي دخلت فيه اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا) حيز التنفيذ.. وكان وقتها بمثابة إعلان الحرب على الحكومة المكسيكية، حيث ورد فيه أنه اختار الكفاح المسلح بسبب ضعف النتائج التي تم تحقيقها من خلال الوسائل السلمية للاحتجاج (مثل الاعتصامات والمسيرات).

ظهرت لافتة يقرؤها كل من يدخل المنطقة المتمردة: “أنت في منطقة زاباتيستا، وهي في حالة تمرد. هنا يأمر الناس، والحكومة تطيع”.

كان هدفهم الأول هو التحريض على ثورة ضد صعود النيوليبرالية في جميع أنحاء المكسيك، لكنّهم مالوا عند عدم الاستجابة لندائهم إلى الاحتجاج على توقيع اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا)- التي أدّى التوقيع عليها إلى حذف المادة 27، من الفصل السابع من الدستور المكسيكي، والتي كانت تضمن تعويضات الأراضي لمجموعات السكان الأصليين في جميع أنحاء المكسيك من خلال حيازة الأراضي الجماعية- ومحاربة العولمة، وتخريب البيئة، وتعزيز حقوق هؤلاء السكان الأصليين والفقراء والمهمّشين عموماً، وغير ذلك.

ما ورد أعلاه مقدمة للحديث عن الجانب الإيديولوجي للزاباتيستا، وعن الحوكمة في تشياباس.

تنسج حركة زاباتيستا إيديولوجيتها” الزاباتية الجديدة” من تقاليد المايا المتوارثة، مع عناصر من الاشتراكية التحررية (الليبرتارية)، ولاهوت التحرير الكاثوليكي، كما يظهر فيها أيضاً تأثير الفوضويين( الأناركيين) المكسيكيين. كذلك يضيف وجود الناطق الرسمي الأبرز( القائد الفرعي كما يحب أن يُسمّى)  ماركوس عناصرَ ماركسية في الأجواء أيضاً. هنالك دور لمفهوم المساعدة المتبادلة الذي يقول:” ما هو للجميع كلّ شيء، بالنسبة لنا لا شيء”.

لا تأخذ الحركة من إرث مواطنيها من نسل المايا ما هو تقليدي وحياتي وحسب، بل أيضاً تاريخ الملكية المشاعية وجماعية الحياة وترابط المجتمع الداخلي والفطرة.

الاشتراكية التحررية، والمعروفة أيضاً بأسماء أخرى مختلفة، هي فلسفة سياسية يسارية، مناهضة للاستبداد التسلّطي، ومناهضة للدولة ذاتها. هي فلسفة سياسية ليبرتارية داخل الحركة الاشتراكية، ترفض سيطرة الدولة على الاقتصاد في ظل ما يُسمّى اشتراكية الدولة وملكيّتها. بالتداخل مع اللاسلطوية والليبرتارية، ينتقد الاشتراكيون التحرريون علاقات عبودية الأجور داخل مكان العمل، مؤكدين على الإدارة الذاتية للعمال والهياكل اللامركزية للتنظيم السياسي: البلدياتي أو المجالسي، الفدرالي أو الكونفدرالي بمعنى الاستقلال بالإدارة والرأي. كتقليد وحركة اشتراكية واسعة النطاق، تشمل الاشتراكية التحررية الفكر الأناركي والماركسي، أوالمُستلهم من الفكر الأناركي أو الماركسي وغيرهما من الميول اليسارية التحررية.

الأناركية التي تُترجم أحياناً من قبل أعدائها بالفوضوية، هي” ضد الحكومة” أو” اللا- دولة”، انطلاقاً ممّا تراه من عنف الدولة كمؤسسة، وطغيانها الذي لا يمكن برأي الأناركيين-أو الاشتراكيين الليبرتاريين- تجنّبه.

ما يجمع بين تجربة الزاباتيستا وعدد من التجارب الأخرى- ليس جميعها تماماً- هو ملاءمتها للفطرة الإنسانية كما تتجسّد في جماعة بشرية قد تكون صغيرة أو كبيرة، ترى نفسها – وهي بالفعل غالباً- قد تكوّنت تاريخياً أو انحدرت من مزيج من السكان الأصليين، أو على الأقل المختلفين بمواصفاتهم الاجتماعية- التاريخية، وغالباً اللغوية أيضاً. تتعايش هذه الجماعة مع جماعة أكبر وتعاني من التمييز، أو تخشى المعاناة عند إجبارها على الذوبان أو ما يعادله من الإجبار وإنكار الهوية الخاصة. تخشى البقاء كذلك في الدرجة الثانية/ الأدنى.

لذلك استلهمت مثالَها الإبداعيّ مما يُسمّى بالغيفارية، نسبة إلى ثائر القرن العشرين الأكثر إثارة للإعجاب، بإدمانه على الكفاح الدائم والثورة الدائمة. وعلى الرغم من أنّ تجربة حوكمة الزاباتيستا ما تزال- رغم طولها- في طور التجريب، لكن عفاريت الانقلاب نحو أشكال الاستبداد والتسلّط أو الديكتاتورية تبقى قائمة، مع الاطمئنان النسبي إلى نموذج القائد الفرعي ماركوس- الذي غدا اسمه غاليانو-، وهو الذي أطلق على نفسه صفة الفرعي أو” الإضافي” أو الزائد”، بمعنى أنه مُلحق بالمجلس الذي يجمع ويمثّل السكان الأصليين، رغم أنه ليس منهم. وجود فرد كاريزمي أو مجموعة أو جماعة تقارب “الحزب القائد” مصدر دائم لتوليد تلك العفاريت، في غفلة من التاريخ والنوايا الطيبة.

فلاديمير لينين، الذي كان أقرب إلى ما ورد أعلاه حين كتب “الدولة والثورة” قبيل الثورة، كان شيئاً آخر بعدها بقليل، وفتح بنفسه الباب لستالين والستالينية لاحقاً، رغم ما قيل إنه قد قال عنه. وكومونة باريس العظمى أيضاً، قامت بتطبيق أفكار بلانكي والأناركية في بناها الجديدة، لكنّا لم تستطع الحياة إلّا واحداً وسبعين يوماً ابتداءً من الثامن عشر من آذار- كيوم بداية الثورة السورية في درعا- وحتى الثامن والعشرين من أيار… وتلك حياة لا تُعَدّ شيئاً في حياة الشعوب، رغم كلّ مجدها وإرثها الباقي.