كل هذا الأذى في عفرين..كل هذا الإجرام !

بثقة مطلقة يمكننا توصيف حالة عفرين بأنها منطقة واقعة تحت احتلالين موصوفين: احتلال تركي خارجي يتعالى عن أن يسمّي نفسه احتلالاً على ما يستجرّه الأمر من التزامات قانونية ومساءلة وحساب، واحتلال داخلي تمثّله الفصائل المسلّحة التي يُسند إليها تنفيذ المهام القذرة. غير أن المسؤولية المباشرة عن الارتكابات والانتهاكات الواقعة على كرد عفرين منذ يناير/كانون الثاني 2018 تقع بدرجة أولى على تركيا التي ترتدي قفّازاً اسمه فصائل “الجيش الوطني”، ذلك أن هذا القفاز يخفي بصمات أنقرة داخل مسرح الجريمة في عفرين، لكنه لا ينفي ضلوع تلك الفصائل في ارتكابها جرائم ضد الإنسانية.

والثابت في عمل الاحتلالين هو تكريسهما لسياسة الفصل العنصري، وفرض شكل من أشكال الذمية العرقية على الكرد، والإبقاء على المنطقة رهينة سياسات القمع والتغيير الديمغرافيّ والإحلال السكانيّ.

يمكننا إلى ذلك، وفي أحيانٍ كثيرة، تسمية صيغة الحكم في عفرين بأنها حكم ريبتوقراطي، أي نظام لصوصية مشيّد ومنظّم وموزّع على اقطاعات عسكرية يملكها قادة مليشيات، ونظام فساد ونهب وضرائب غير مسوغّة، لكن طبيعة الحكم هناك تتجاوز هذه الصيغة، ذلك أن حالات القتل والاعتقال والاختطاف والتعذيب تشي بالعمق الإجرامي للمليشيات التي لا تكتفي بالتربّح وأعمال اللصوصية، بالتالي فإن شكل السيطرة يمزج بين كل أشكال الفظاعات ويحيلنا إلى ما قالته سيدة كردية مكلومة خسرت أفراد عائلتها في مجزرة جنديرس “أدخلوا كل حثالات البشر إلينا في عفرين”.

وإذا كنا أمام سياسات تغيير ديمغرافي وإحلال سكاني متواصلين، فإننا الآن مع انتشار فيديو يوثّق عملية “دخول” إيزيدييَن من قرية قيبار في دين الإسلام، نقف على أعتاب سياسة إحلال ديني أيضاً، إذ لم تكتفِ الفصائل بتدمير مزارات الإيزيديين والكرد العلويين في عفرين، بل هي الآن في طور “نشر الإسلام”، ولعل هذا الشكل القروسطي للدعوة يتكئ إلى قوّة السلاح وسطوة الترهيب الممارس على هاتين الجماعتين الدينيتين الكرديتين. ولئن كان شعار الأسلمة التاريخي في عصور “الفتوحات” يقوم على ترويسة “أسلم تسلم” فإن واقع الحال يشير إلى أن الكردي الإيزيدي أو العلويّ لن يسلم إن أسلم شأنه في ذلك شأن بقية الكرد.

وتنطوي الأوضاع في عفرين، منذ مجزرة جنديرس عشية يوم نوروز ،على مشهد مربك: تضامن محلّي ودعوات للتظاهر والاعتصام، في مقابل تظاهرات مضادة أقحمت العلم ذي النجمات الثلاث وحملت شعار “علمنا وثورتنا شرفنا” ودائماً لأجل ترهيب من تبقّى من كرد جنديرس، رغم أن علم وثورة و”شرف” هؤلاء لم يمسّ في عفرين، كما ينبغي القول أن سواد الكرد الأعظم بات يرى في هذا العلم رمزاً للحرب والاستبداد والاستعباد، ولم يعد جلّ النشطاء الكرد مأخوذين بالنوستالجيا التي كانت تجمعهم وبقية السوريين ممن يستذكرون الأيام الأولى للاحتجاجات، وحريّ بنا تذكّر رفض شعب كردستان العراق رفع علم الجمهورية العراقية بنسخته الصدامية بعيد سقوط نظام بغداد، إذ كان العلم يذكّر بعمليات الجينوسايد والكيماوي والمشانق. بكلمات أكثر دقّة: بات العلم ذي النجمات الثلاث، في المخيال الكردي العام، رمزاً للقسوة والهيمنة والعنصرية.

افترض الغاضبون من جريمة عصابة “جيش الشرقية” أن الجريمة توقّفت عند حدود المجزرة المروّعة، بدا هذا التصوّر عاجزاً عن محاكاة حقيقة هذه العصابة وأطنابها، إذ افترض هؤلاء بأن العصابة تشعر بالقلق، أو أن سمعتها توسّخت لذا ستداري جريمتها، أو تتوارى عن الأنظار ريثما تخفّ الهوجة، غير أن ما حصل في اليوم التالي للمجزرة بدد تلك التصورات، إذ سيقدم عناصر جيش الشرقية إلى الاعتداء بالضرب وخطف شاب كردي من وسط سوق مدينة جنديرس في اليوم التالي لمجزرة ليلة نوروز، لأنه رمق عناصر فريق القتلة بنظرة لم تعجبهم. وبطبيعة سيعتقل الأتراك، وكذا فعلت “الشرطة العسكرية”، مدنيين كرد آخرين كانوا يسعون للمشاركة في الاعتصامات.

أسفرت المجزرة عن سيولة في عملية التضامن، ويمكننا التمييز بين ثلاثة تضامنات منها: أولاً، تضامن سوريين، من غير الكرد، مع ضحايا المجزرة دعوا  للمحاسبة والاقتصاص ومراجعة ارتكابات الفصائل بحق الكرد وصولاً لفضح أدوار الجهات السياسية التي تشكّل الغطاء السميك للفصائل وتبرر أفعالها، وصولاً لتوقيع مثقفين ونشطاء سوريين على بيان إدانة على غير ما جرت العادة في جرائم سابقة.

ثانياً، تضامن الكرد مع ضحاياهم في الدياسبورا ومدن الجزيرة وكوباني، وفي عفرين نفسها، وهو تضامن لا يقوم على نوازع أو حسابات منفعة، بقدر ما يقع في إطار المألوف والمتوقّع.

 فيما يفتح تضامن ثالث، يؤدّيه بعض عناصر المليشيات والمنخرطين في برامج تركيا الاستيطانية، الباب حول الأسباب التي تدفعهم إلى التضامن، ذلك أن تتبع أسباب تضامنهم يقودنا إلى قلقٍ يستبد بمعظم المليشيات وجماعاتٍ داخل الائتلاف من أن تُقدم “هيئة تحرير الشام” إلى وراثة الفصائل في عفرين، إذ يبدو أن متزعم الجبهة، أبو محمد الجولاني، نجح في وقت سابق باختراق الفصائل وأقام روابط نشطة مع بعضها، وقد يربط الجولاني مشروع توسّعه بتنامي عمليات القتل والفوضى في عفرين واستياء الأهالي من حكم العصابات، الأمر الذي شدّ من عصب بعض الفصائل المتخوّفة من تمدد الهيئة ودفعها لتخطّ عبارات مناهضة لدخولها عفرين، فيما المرجّح أن يكون فصيل “جيش الإسلام” هو من قام بكتابة تلك العبارات باعتباره عدو الهيئة الأثير.

داخل جوّ التعبئة المناهض للجولاني، جاءت التظاهرات والاعتصامات في شكل يسعى إلى استمالة الكرد، بما يقطع الطريق على “تحرير الشام” التي يبدو أنها تبحث لنفسها عن حاضنة شعبية في عفرين، والغالب على الظن أن مواقف بعض الفصائل والمستوطنين وأعضاء في الائتلاف المتضامنين مع ضحايا المجزرة إنما جاءت في سياق التنافس مع الجولاني سعياً منها لئلا تكسبه بعضاً من المرحّبين به؛ فالمؤكّد أن هذه الأطراف لا يمكنها أن تتضامن مع الكرد بعد كل هذا الأذى والإجرام الذي ارتكبته أو بررت له، فيما يبدو أن كرد عفرين هم الذين يدفعون، وسيدفعون، ضريبة هذا التنافس.

أما ما يدفع واحدنا لأن يضرب كفاً بكف هو أن نقرأ عبارات لنشطاء سياسيين تقول لنا في هذه الأثناء أن “الشعب السوري واحد”، فيما الحقيقة وما تقوله الأخبار الموثّقة هو أن السوريين في عفرين “شعبان” يسحق الشعب المسلّح المحتل المتحزّم  بالحماية التركية فيها، الشعب المقهور والأعزل.