في مطلع العام 2021 اقتحم انصار الرئيس دونالد ترامب مبنى الكابيتول، مقر السلطة التشريعية في الولايات المتحدة، في محاولة لمنع الكونغرس الأميركي من فرز الأصوات الانتخابية وإضفاء الطابع الرسمي على فوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية، الفوز الذي لم يعترف به ترامب واعتبره مسروقاً. وبحسب اللجنة البرلمانية التي حققت في الحادث، فإن هجوم الكابيتول الذي راح ضحيته خمسة قتلى ومئات الجرحى، كان جزءاً من خطة منظمة هدفها قلب نتائج الانتخابات. وقد كان ترامب قد صرح في فترة تنافسه مع المرشحة الرئاسية الديموقراطية هيلاري كلينتون (انتخابات 2016)، إنه لن يعترف بنتائج الانتخابات إذا جاءت في غير صالحه.
في مطلع العام 2023، تكرر شيء مشابه في البرازيل، حين هاجم مئات من أنصار الرئيس البرازيلي الخاسر في انتخاباته الرئاسية الثانية (جايير بولسونارو)، مقار السلطة في العاصمة (الكونغرس، والمحكمة العليا، والقصر الرئاسي) بعد أسبوع من تنصيب المرشح الفائز (لولا دا سيلفا) رئيساً للبلاد. وقد وصف دا سيلفا جموع المقتحمين بأنهم “مخربون فاشيون”. كان بولسونارو، على غرار مثله الأعلى ترامب، قد حاول، خلال الحملة الانتخابية، ابتزاز البرازيليين، فصرح إنه لن يعترف بالنتيجة ما لم يكن هو الفائز، وفي خلفية كلامه إشارة إلى علاقته الوثيقة بالجيش وقوات الأمن.
في المثالين المذكورين نحن أمام تدخل مضاد للديمقراطية، أو أمام تمرد على الديموقراطية، يتخذ شكل احتجاج شعبي عنيف ضد نتائج الانتخابات، احتجاج يقوم به جمهور متعصب لرئيس يميني ذي نزوع فاشي خسر الرئاسة في صناديق الاقتراع، ويطعن في نزاهة الانتخابات. يجري هذا في دول ذات مؤسسات وتقاليد ديموقراطية مستقرة، ويشير إلى خطر ملازم للنظام الديموقراطي أساسه عدم الإقرار بالخسارة، وما يحمل ذلك من سعي للانتقال من الشرعية التمثيلية إلى شرعية القوة، تمهيداً للانتقال من إدارة الدولة إلى امتلاك الدولة.
كما تتعرض الديمقراطية لخطر مشابه، ولكن لا يقوم به هذه المرة الخاسرون بل الفائزون في الانتخابات، وذلك حين ينقلبون، من موقعهم في السلطة، على القواعد الديموقراطية. كما شهدنا في تونس قيس سعيد، وكما نشهد في إسرائيل مع حكومة بنيامين نتنياهو اليوم.
في الحالتين (خطر الخاسرين وخطر الفائزين) لا يحمي الديمقراطية من الانهيار سوى قوتها ومدى تبلورها في الوعي والمؤسسات. هكذا صمدت الديمقراطية في الولايات المتحدة وفي البرازيل، ولكنها لم تصمد مثلاً في الجزائر حين انقلب الجيش أو جبهة التحرير، عقب خسارتها، على نتائج الانتخابات النيابية (ديسمبر/كانون الأول 1991) التي فازت فيها جبهة الإنقاذ الإسلامية، التي لم تتورع، بدورها، عن التصريح بأنها سوف تنسف المبدأ الديموقراطي ما أن تصل إلى الحكم.
وعلى غرار ذلك، نجح قيس سعيد، إلى الآن على الأقل، في تمرير انقلابه على الديمقراطية التونسية الوليدة، فيما فشل نتنياهو في تمرير “إصلاحاته” القضائية المنافية للديمقراطية، بعد أن أوصلت الاحتجاجات والاضرابات وتضافر جهود المؤسسات الأساسية، الحياة في إسرائيل إلى الشلل، ما أجبر رئيس الوزراء على تعليق التشريع المقترح.
يمكن الإشارة مروراً إلى عيب لا تمتلك الديمقراطية إحساساً كافياً تجاهه. ومن الصور الصريحة الراهنة لهذا العيب أن الحكم العسكري الذي تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين، والتمييز ضد من يعيش منهم داخل إسرائيل، لا يحرك ولو جزءاً يسيراً من الاحتجاج سواء لدى الإسرائيليين، أو لدى الدول الديموقراطية التي رفعت صوتها ضد انقلاب نتنياهو على مكانة واستقلالية القضاء الإسرائيلي. بصورة عامة، وعلى طول الخط، كانت الديمقراطية قابلة للتعايش مع الكثير من أشكال الاعتداء على حقوق الانسان وحقوق الشعوب طالما كان المعتدى عليهم من غير أبناء جلدة أهل البلد الديمقراطي. هذا لا ينقض حقيقة أن الديمقراطية تتفوق سياسياً وأخلاقياً على كل أشكال الحكم السياسي الأخرى.
إذا كان ما سبق يشكل خطراً على الديمقراطية من اليمين، وينطوي على ميل إلى تقييد الديمقراطية والحد منها، فإن الديمقراطية تتعرض أيضاً لضغط من اليسار لدفعها باتجاه المزيد من الديمقراطية، أي المزيد من حضور الناس في صناعة القرار، ومن تقييد “حرية” الحكومات. هذا أمر تكثر مشاهدته، وهو يدل على أن الديمقراطية ليست فقط نظام حكم أو آلية حكم، إنها، فوق ذلك وأهم من ذلك، تمكين الناس من رصد مستويات تطور حياتهم ومعرفة حقوقهم والدفاع عنها.
في فرنسا اليوم نشهد هذا التوتر بين حكومة ديمقراطية، وبين جمهور واسع يحتج على قرارات الحكومة (إصلاح قانون التقاعد بزيادة سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة). هو إذن صراع بين حكومة لا شك في أنها تقوم على أساس ديمقراطي مكرس، وبين شعب يتحدى الحكومة، ويرفض قرارتها بنسبة تصل إلى 70%، والشعب هو في الديمقراطية المصدر الأول للسلطة. أي أننا أمام صراع بين ديمقراطيتين، أو بين ديمقراطية أقل استجابة للشارع، تمثلها الحكومة، وديمقراطية أكثر انفتاحاً على الشارع، تمثلها الاحتجاجات. أو هي تنازع بين الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية المباشرة.
حجة الحكومة الفرنسية أن هذا الإصلاح هو السبيل الوحيد لتلافي العجز المالي، وحجة المحتجين أن الحكومة تريد معالجة العجز على حساب أصحاب الرواتب لحماية أرباب العمل. لا يمتلك الناس في سبيل الضغط على الحكومة سوى الخروج إلى الشارع والاضرابات. هذه وسائل شرعية ولكن يمكن للحكومة، إذا أرادت، أن تتحمل نتائجها إلى أن يتعب المتظاهرون، وإلى أن يعود المضربون إلى العمل تحت ضغط الحاجة. الأمر الذي يميل بالمتظاهرين إلى استخدام العنف بغرض إيلام الحكومة أكثر ودفعها للاستجابة. وهذا ما يقوم عليه تفكير مجموعات من الشباب (بلاك بلوك) الذين يدخلون في المظاهرات بغرض التكسير. يصبح العنف هنا وسيلة لإحياء الصلة بين الحكومة الديمقراطية والشعب.
لنا أن نتساءل، ماذا لو أصر كل طرف على موقفه، الحكومة الديمقراطية مقابل الشعب الذي يشكل، في الديمقراطية، مصدر كل سلطة؟ لا جواب في الأنظمة الديمقراطية على هذا السؤال. هكذا وضع يتجه نحو تسوية، أو تراجع أحد الطرفين، أو حرب أهلية. يعيدنا هذا إلى فكرة أناركية عريقة، وربما طوباوية حتى الآن، هي اعتماد التسوية دائماً كمبدأ، دون الحاجة إلى أي اختبار قوة، ودون الحاجة إذاً إلى أجهزة قوة.