إتمام هزيمة “داعش” أمام تحدٍ غير الحرب العسكرية ضده

أربيل- نورث برس

يجمع باحثون وخبراء استراتيجيون أن الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في سوريا والعراق توّجت بالانتصار الجغرافي فقط، بينما ظلت الإيدولوجية والأفكار “المتطرفة” تتنامى دون توقف، ما يشكل التحدي الأصعب في الحرب ضده،  ليس في سوريا والعراق فحسب، بل في الكثير من بلدان العالم وخاصة وسط قارتي آسيا وأفريقيا.

ففي مثل هذا الشهر من عام 2019، كانت تدور إحدى أشرس المعارك ضد “داعش” في آخر معاقله ببلدة الباغوز السورية بقيادة قوات سوريا الديمقراطية وبغطاء جوي من التحالف الدولي.

لكن مع ذلك لايزال التنظيم يشكل تهديداً، ويُحذر من تناميه غير المحدود نظراً لنشاطه المستمر في سوريا والعراق، فضلأً عن انتشاره الواسع في أفريقيا وكذلك وسط آسيا، رغم حدوث تطورات كثيرة في جهود محاربة “داعش”، بما في ذلك القضاء على رؤوس التنظيم معظمهم كانوا قد تحصنوا في مناطق شمال غربي سوريا.

ستُّ سنوات من الحرب

في صيف عام 2014 ظهر تنظيم “داعش”، مدججاً بالأسلحة التي استولى عليها من الحكومات الهشة في دمشق وبغداد عام 2013،  لينطلق من وسط سوريا والعراق ويسيطر على ثلث مساحة البلدين.

وبالرغم من صيته السيئ، نال التنظيم شهرة واسعة على صعيد دولي، فانظم إليه في وقت قياسي- مئات المتطرفين من شتى دول العالم ـ مبايعين “الدولة الإسلامية في سوريا والعراق” له وزاراته وولاياته وجيشه ومروجيه ومموليه.

مدن كثير في العراق وسوريا لم تدم مقاومتها أمام قوافله المسلحة سوى أسبوع واحد على أكثر تقدير،  وكأنما الأرضية والحاضنة مهيئة للخضوع، فترك فيها مجازر وأحكاماً متطرفة من قطع الرؤوس وصولاً إلى استعباد المرأة.

لكن هذا التوسع السريع اصطدم بجدران كوباني السورية، المدينة التي تغنى المجتمع الدولي بمقاومتها وغيرت معادلة الحرب ضد التنظيم، فكانت أحد أبرز أسباب الدفع إلى تشكيل تحالف دولي  لمحاربة التنظيم المتطرف.

ومنذ ذلك الوقت، بدأت مساحات التنظيم بالتراجع والانحسار في سوريا بعد تشكل قوات سوريا الديمقراطية، وفي العراق بعد إعادة تنظيم صفوف القوات العراقية، ليتم حصره في نقطة “صفر جغرافيا”، أعقاب الهزيمة الكبرى بمنطقة الباغوز السورية يوم 23 آذار/مارس عام 2019.

لكن مصطلح “صفر جغرافيا” لا يمثل انتصاراً كاملاً مع بقاء الآلاف من عناصره طليقين في مناطق نائية بالدولتين، وآخرون في السجون يشكلون تهديداً بالعصيان والهروب، إضافة إلى آلاف الأطفال الذين تربوا وتغذوا بفكر التنظيم عبر نسائهم الولّادات من نسله.

سُبل المواجهة

مع مرور نحو عقد من الزمن على عمر تنظيم “داعش”، فإن نهايته الأبدية تبقى أمراً مستبعداً “مالم يتم محاربته فكرياً” بمنهجية واسعة، هذا ما اتفق عليه عدد من الخبراء الاستراتيجيين، حسبما جاء في تصريحاتهم لنورث برس.

ويرى  الخبير الأمني العراقي فاضل أبو رغيف، أنه لا يمكن القضاء علي تنظيم “داعش” بشكل نهائي، ويندرج كل ما يقال عن أن نهايته باتت قريبة، ضمن الحماسة المعنوية وليس الموضوعية”.

ويعزو أبو رغيف اعتقاده، إلى الحاجة الكبيرة لحرب فكرية وإلى مدارس تأهيلية متكاملة يشارك في ذلك أدوار الإعلام والندوات، وحتى منابر الجوامع وكل قطاع يساهم في ازالة الفكر، بما في ذلك وضعه كمنهج دراسي في المراحل الدراسية.

أما الدكتور معتز محي وهو مدير المركز الجمهوري للدراسات الأمنية والاستراتيجية في العراق، يقول إن التنظيم يستغل ضعف فئات مجتمعية، الأمر الذي يضع على عاتق الحكومات مسؤولية احتواء واستعياب الشباب القابلين للانحراف والتوجه إلى التنظيم.

وانحسر تنظيم “داعش” في العراق بمناطق جبال حرمين ومكحول وسهل نينيوى، لكن “محي” حمّل القائمين على أمن الحدود السورية العراقية مسؤولية  الحيلولة دون تطويق عناصر التنظيم بشكل نهائي.

وفي السياق شدد مدير المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية الدكتور غازي فيصل حسين، على أنه ليس من السهل القضاء على التنظيمات المتطرفة عسكرياً، بل الأهم من ذلك مواجهتها فكرياً بصورة عقلانية وعلمية بدءاً من نشر الوعي في المجتمعات.

عوامل نشاط لـ”داعش”

ورغم أن تواجد عناصر التنظيم انحسر في مناطق جغرافية ضيقة وغالباً ما تكون وعرة ونائية وتشهد فراغأً أمنياً سواء في سوريا أو العراق، يبقى التحدي الأكبر هو إنهاء أيديولوجيته.

يقول “أبو رغيف”، إن “داعش” هو تنظيم أيديولوجي راديكالي متطرف قائم على نظام “الولايات”، ويعمل على هيئة مفارز، يمرض لكن لن يموت، يضعف لكن لن ينتهي، ويبقى يواصل نشاطه حتى لو معه أفراد قليلون”.

ويعتمد التنظيم وفقاً لـ”أبو رغيف”، على أسلوب استقطاب الشباب والصبيان وفئات خطيرة من المطلوبين والمعقلين والمقتولين ممن لديهم روح انتقامية.

وهناك عمليات قليلة مقارنة بالتي كان ينفذها قبل سنوات، لكنه دائماً يعمل بشكل انتهازي استغلالي للمناطق الرخوة والفراغ الأمني، ويحاول بين فينة وأخرى التملص من جهود الاستخبارات التي تراقب تحركاته،  فينفذ هجمات متفرقة ضد المدنيين والأمنيين.

وقال مدير المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية، غازي فيصل حسين، إن هزيمة “داعش” عسكرياً في 2017 بالعراق و2019 بسوريا “لا يعني هزيمة ثقافته”.

وأضاف لنورث برس: “وهنا يكمن واحدة من أكثر المواضيع المعقدة، وبالتالي أعتقد أن مواجهة ثقافة التطرف أهم بكثير من المواجهة العسكرية على الصعيد الجغرافي، ولهذا السبب ظل لتنظيم لداعش وتنظيمات متطرفة أخرى كطالبان والقاعدة وغيرها نشاطاً، باعتبار أنهم يمتلكون قاعدة فكرية متجذرة في المجتمعات.”

عدد عناصر “داعش” بعد هزيمة دولتهم

تقدر الأمم المتحدة عدد عناصر “داعش” الطليقين في سوريا والعراق بنحو عشرة آلاف عنصر، لكن يبقى هذا الرقم غير دقيق، إذ أن الكثير منهم موالون بالخفاء أو ويحملون فكره، أو أنهم يشكلون خلايا نائمة في المجتمعات.

وقال الخبير العسكري والأمين السابق لوزراة البيشمركة في إقليم كردستان العراق جبار ياور، لنورث برس، إن هناك أرقاماً تقديرية وليست ثابتة، لأنه لا يمكن إحصاء الخلايا النائمة المنتشرة في المناطق النائية، لكن حسب التقارير الدولية يوجد ما بين 6- 10 آلاف مسلح بالتنظيم في العراق وسوريا.

أما التقديرات التي تفيد بها الأجهزة الاستخبارتية في العراق أو في التحالف الدولي، يقدر عددهم بين 3-5 آلاف عنصر مسلح والباقي هم خلايا نائمة متواجدون داخل القرى والمدن، هذا ما عدا من يحلمون أفكار “داعش” وهم بالظاهر مزارعون أو كسبه أو فئات أخرى، حسب “ياور”.

كذلك في السجون، يوجد حوالي 10 آلاف من عناصر داعش الخطرين وهم  لازالوا يتبنون فكر التنظيم المتطرف، وينتهزون كل الفرص للفرار وإعادة تنظيم أنفسهم، ولعل الهجوم الذي شنوه في سجن الصناعة بالحسكة مطلع العام الفائت هو الدليل الأبرز على ذلك.

هذه التقديرات التي كشفها “ياور”، تشمل سوريا والعراق فقط، ما يعني أن عددهم قد يفوق آلاف آخرى منتشرة في دول العالم ولاسيما أفريقيا التي شهدت خلال الأعوام الأخيرة الماضية عمليات دموية، على ما رصدته تقارير إعلامية.

يشكل خطراً متنامياً رغم تقلص عملياته تدريجياً

وقال “ياور” إن المشكلة لا تكمن في عناصر “داعش” الطليقين فقط، بل في المجمعات التي تحتوي ألوفاً من نسائه وأطفاله كمخيم الهول في شمال شرقي سوريا، نموذجاً، والذي يحوي ما لايقل عن 55 ألف فرد، وكذلك السجون.

وبلغ الأطفال من نسل “داعش” سن الشباب وقد تربو على فكره، ما يعني أنهم يشكلون خطراً كبيراً وتحدياً في المستقبل.

وهذا ما يدفع دول غربية على تنظيم عمليات العودة، رغم شعورها بالقلق والحذر من أن يجلب هؤلاء الأشخاص المتأثرين بالتنظيم المتشدد، الفكر المتطرف لدى عودتهم إلى الوطن، وشجعت بريطانيا هذه النظرية وهي من الدول التي ترفض إعادة رعاياها.

وقال الدكتور معتز محي مدير المركز الجمهوري للدراسات الأمنية والاستراتيجية: “انتصرنا عسكرياً وحررنا المدن التي كانت تخضع لسيطرة داعش ولكن الفكر بقي يتجدد وولاداً في المناطق النائية وخاصة في محيط الحدود العراقية السورية”.

 ويرجع محي السبب هو أن عناصر التنظيم يواصلون التدريب خارج المدن، ومستمرون بنشر أفكارهم ولازالوا يعتقدون انهم على نهج صحيح بجانب أنها تفكر بالثأر للهزيمة العسكرية من خلال شن غزوات الكر والفر.

وقال “ياور” إن عدد عمليات “داعش” العسكرية في العراق العام الماضي، بلغ 159 عملية راح ضحيتها 167 من المدنيين والعسكريين بين قتيل وجريح ومختطف.

ومقارنة بالسنوات السابقة هذا العدد انخفض تدريجياً، فقد شهد العام 2021، أكثر من 250 عملية في العراق راح ضحيتها  942 شخصاً، كما كان العدد أكبر بكثير عام 2018 حيث شهد العراق 456 عملية بلغ عدد ضحاياها 1742 شخصاً.

هذه الحصيلة تشمل العراق فقط وجلّها تقع في الخط المتنازع عليه بين أربيل وبغداد، بحسب “ياور”.

وقال إنه في العام 2020، نفذ تنظيم “داعش” في سوريا 608 عملية وفي العراق 1459.

وفي عام 2021  نفذ التنظيم في سوريا 359 عملية وفي العراق 1113 عملية، وهذه الإحصائيات يقول عنها “ياور”، إنها تدل على انخفاض إمكانيات التنظيم، إذا ما تمت مقارنتها بعام 2022 والذي شهد  279 عملية في سوريا و483 عملية في العراق.

انتشار عالمي

يذكر تقرير نشره مركز  ويلسون الأميركي للبحوث والدراسات نهاية العام الفائت، أن خطر تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” لازال مستمراً في سوريا والعراق، بينما أصبح أكثر شدة في أفريقيا، ومناطق أخرى في آسيا الوسطى.

وقال المركز، إن الأضواء سلطت على التحولات القيادية في كل من تنظيمي “القاعدة وداعش”، ومع ذلك، فإن ذلك لم يقابله تغييرات جذرية أو مزايا جديدة في ساحة المعركة.

وحتى مع فقدان القادة ظلت “شبكة داعش العالمية” على ما وصفه التقرير، نشطةً من أفريقيا إلى آسيا الوسطى في عام 2022.

ومنذ هزيمة “داعش” عام 2019، قُتل أربعة واعتقل آخر، من القيادات البارزة في التنظيم، بما فيهم الخليفة أبو بكر البغدادي، وأبو حسن الهاشمي القريشي  وماهر العقال، وذلك في سلسلة عمليات متشابهة من حيث الأسلوب، معظمها نُفِّذت في مناطق سيطرة الجيش التركي والفصائل الموالية له، شمال غربي سوريا.

لكن هزيمته عسكرياً والقضاء على قياداته، لم يحد من نشاط التنظيم في سوريا والعراق، بل خلف ظهوراً في وسط قارتي آسيا وأفريقيا.

وتحول أكبر عدد من عمليات “داعش” جنوباً نحو أفريقيا في السنوات الأخيرة، حيث تباهى التنظيم بالعديد من “الولايات” في إفريقيا بما في ذلك نيجيريا في غرب أفريقيا، ومالي في الساحل، وجمهورية الكونغو الديمقراطية في وسط أفريقيا، وموزمبيق جنوبها.

هذا بالإضافة إلى نشاطه بشكل خاص في أفغانستان على طول الحدود الباكستانية المعروفة باسم ولاية “داعش خراسان”.

وشرح الدكتور غازي حسين، أن أصل التنظيمات الإرهابية المسلحة للإسلام السياسي، هي انعكاس لثقافة متطرفة وتأويلات دينية منحرفة تبرر العنف والقتل وتستعبد النساء، وتقوم باعمليات إبادة جماعية ضد الأعراق المختلفة أو العقائد الدينية المتواجدة منذ آلاف السنين.

وقال إن التطرف هي ثقافة متجذرة في التيارات المتطرفة ليس في الإسلام فحسب، بل وثق ذلك أيضاً في المسيحية واليهودية والمعتقدات الهندية وأخرى.

ولم يستثنِ الخبير الاستراتيجي نموذج “ولاية الفقيه” في إيران من قائمة التطرف الراديكالي على مستوى المذهب الشيعي وفروعه في منطقة الشرق الأوسط بما في ذلك في سوريا، وهذا ما ينطبق أيضاً على  الأخوان المسلمين، بحسب تعبيره.

إعداد وتحرير: هوزان زبير