مفارقات الثورة المهزومة

تمر هذا الشهر الذكرى الثانية عشر لاندلاع الثورة الشعبية السورية. دون أن يخفي الزمن تنافر مواقف السوريين منها؛ في أسبابها وطبيعتها ومآلاتها. لكن ذلك لا يلغي الحاجة إلى مراجعة دروسها، وتحليل الواقع الملموس بشكل علمي وعقلاني لرسم سياسات مطابقة، لتجاوز الوضع الراهن الصعب والتقدم خطىً نحو الحرية. ليس الأمر سهلاً، ولا سيما أن النقاش العام في هذا الخصوص تحكمه داخل الأوساط السورية المعارضة، في أغلب الاحيان، مشاعر متناقضة من الغضب والإحباط والتخبّط، والغرائز وبعض من الجنون في أحيان كثيرة. وهي من العلامات المعهودة لهزائم الثورات.

وبعيداً عن الخوض في التفاصيل، نرى أن ما جرى عام 2011  أنه كان ثورة عظيمة، خرجت الجماهير فيها من أجل الحرية والكرامة والمساواة، في مواجهة نظام سلبها حريتها وأفقرها إلى أقصى حد، عبر سياسات استغلال ونهب كانت جزءاً  السياسات النيوليبرالية في المنطقة.

فقط خلال عقد من الزمن بين أعوام 2000 و2011 انزاح أكثر من نصف الشعب السوري إلى تحت حافة الفقر، وفق إحصائيات الأمم المتحدة، وكان مصير ثلاث من أصل خمسة من خريجي الجامعات هو البطالة، وتضخّم جيش العاطلين عن العمل سنوياً بنحو ربع مليون عاطل كل عام، فيما كان نحو ثلاثة أرباع الناتج المحلي يصبّ في جيوب طغمة من البرجوازيين المرتبطين عضوياً بالطغمة الحاكمة. كل الأسباب الموضوعية للثورة كانت ناضجة جداً. لكن ما كان غائباً هو القيادة السياسية الثورية، أي عدم وجود تنظيم جماهيري ثوري على الأرض، التنظيم  الذي  أثبتت تجارب كل الثورات أن غيابه عند انطلاق الثورة، هو علامة ضعف شديدة وسبب رئيس من أسباب هزيمتها المتكررة.

وبالرغم من ذلك، فإن التدقيق فيما جرى خلال العام الأول، على وجه الخصوص، يشير إلى أن الثورة السورية التي إنفجرت عفوياً، في سياق إقليمي ثوري، استطاعت الجماهير الشعبية التي شكلت القوى الاجتماعية المحركة للثورة، والتي دفعت الثمن الأعلى من التضحيات، استطاعت وبسرعة مذهلة ووعي عالٍ أن تبدع تشكيل هيئات تنظيمها الذاتي: التنسيقيات، وأيضاً هيئات تسيير شؤون حياتها مباشرة: المجالس المدنية والمحلية.

وفي حين عانت التنسيقيات من مشكلتين أساسيتين هما: طابعها المحلي وضعف مركزتها وبالتالي غياب طابعها الوطني العام. رغم بعض المحاولات التي لم تعمّر لتجميع بعضها. فيما تمثّلت المشكلة الثانية هي أن النظام قضى عبر القتل أو الاعتقال أو الدفع إلى الهروب خارج البلاد بأفضل القادة لهذه التنسيقيات وهم من اليساريين والديمقراطيين، ويشاع أنه قضى على ثلاثة “أجيال” منهم، ما ترك الباب واسعاً لتسلّم من هم أضعف وعياً وإدراكاً وتنظيماً قيادة هذه التنسيقيات.

أما على صعيد المجالس المحلية، فإن اتّباع النظام لأقسى درجات الوحشية وممارسة سياسة الأرض المحروقة ضد المناطق الثائرة، جعل من دور هذه المجالس التي انتخب بعضها في البداية ديمقراطياً، ضعيفاً؛ فتمّ انتقاء الوجهاء من السكان، وجعل السعي للخوف على التمويل سياسة أولى تطغى على ما تبقى . فاندثرت كتجربة رائدة كما اندثرت التنسيقيات الثورية لاحقاً.

فعل نظام الطغمة كل ما في وسعه لسحق الثورة، واستخدم كل أنواع الأسلحة الفتاكة ضد شعبه الثائر، بلا رحمة أو رادع. ولكنه أيضاً أطلق العنان إلى سحق الثورة من داخلها، فمنذ الأشهر الأولى للثورة أطلق العنان لخطاب طائفي بشع محاولاً تمزيق الوعي العام للسوريين، وفتح أبواب سجونه لآلاف الجهاديين.  الذين سرعان ما قاموا ببناء ميليشيات طائفية شكلت خنجراً في خاصرة الثورة .

أرادها النظام إلى ذلك، طائفية ومسلحة، ما يعني أن هزيمتها ستكون حتمية، وهو ما تحقّق.

في المقلب الآخر، كان انتصار ثورة شعبية، ترفع شعار الحرية والكرامة والمساواة، خطراً محدقاً  ليس على نظام الطغمة في دمشق، بل على النظام الإقليمي برمته، كما هو الحال في الثورات الأخرى في بلدان المنطقة، وأيضاً لدى العديد مصالح هامة أرادت تحقيقها، فتدخلت في سوريا بأشكال مختلفة، عبر الدعم المالي لميليشيات مسلحة وأيضاً دعم قوى سياسية معيّنة،  وقد انتهى المطاف بعدد من الفاعلين الإقليميين للتدخل عسكرياً مثل تركيا وإيران، وميليشيات طائفية أخرى، وانتهى الأمر بتدخل دولتين كبيرتين هما الولايات المتحدة وروسيا، تحت ذريعة محاربة تنظيم داعش الفاشي الذي سيطر عام 2014 على أكثر من ثلث مساحة سوريا.

غياب القيادة السياسية الجماهيرية والثورية، سمح للدول الاقليمية ، بالأخص تركيا وقطر، إلى تشكيل هيكل سياسي يتنطع خلف ادعاء تمثيل الشعب والثورة. اسموه “المجلس الوطني” بالعام الأول، ولفشله الذريع أعادوا تركيبه، في العام الثاني من الثورة، باسم الائتلاف الوطني، ليصبح مرتعا للفساد والفشل.

ما لا بد من قوله، أن القوى والشخصيات التي تم إبرازها في هذه الهياكل السياسية التابعة والفاسدة، كانت، وما تزال، تتشدق بليبراليتها. وحلمها ، بالأحرى وهمها، على أن الغرب سيتدخل عسكرياً لإسقاط النظام لتحل بدورها محله. كان هذا هاجسها الرئيس. وفي عقلها ولسان حالها، حتى قبل الثورة بسنوات، كانت تتمنى أن يجري في سوريا ما جرى من غزو أمريكي للعراق وإسقاط نظام صدام حسين.

هذه المعارضة الليبرالية التابعة ( بشقيها العلماني والإسلامي) هي أيضاً مسؤولة عن هزيمة الثورة السورية، وما حصل لشعبنا من مآسي.

شكل عام 2013 منعطفاً هاماً في مسار الثورة السورية، حيث بدأت بلفظ أنفاسها الأخيرة وانتهت مهزومة تماماً في عام 2014. وما جرى منذئذ من معارك إنما كان بين قوى “الثورة” المضادة المتعددة الأطراف.

لكن  قبل انعطافة إندحار الثورة الشعبية السورية، كما ذكرنا أعلاه، أدى تضعضع نظام الطغمة في النصف الثاني من عام 2013 وانحسار سيطرته الجغرافية، رافقه نهوض ملحوظ للحركة السياسية الكردية، الأكثر تنظيماً ووعياً إلى قيام ما أسميه ثورة في الثورة، أي بداية تشكيل الإدارة الذاتية كمشروع ديمقراطي حافظ على روح ثورة الشعب السوري بالتحرر. هو ذا مكر التاريخ: ثورة شعبية عظيمة تُهزم، من جهة، ومن أحشائها تنهض ثورة ديمقراطية.

أما ما نحن عليه اليوم وما يجب أن يقال، فهو بالتأكيد يستحق كتابات أخرى.