الأزمة السورية في بداية عامها الثالث عشر (2)

لقد مرت انتفاضة الشعب السوري منذ انطلاقها في الخامس عشر من آذار لعام 2011 بستة مراحل رئيسة متمايزة، بدأت في أولها على شكل مظاهرات سلمية مدنية، ركزت راياتها على الوحدة الوطنية، وعبرت شعاراتها عن مطالب الشعب المحقة في الحرية والكرامة والديمقراطية. لقد استمرت هذه المرحلة نحو ستة أشهر على وجه التقريب، تخللتها بعض الحوادث العنيفة المتفرقة.

وفي المرحلة الثانية بدأ التمرد المجتمعي يزاوج بين المظاهرات السلمية وحمل السلاح بذريعة الدفاع عن النفس. خلال هذه المرحلة، التي استمرت نحو ستة أشهر أخرى، بدأت تتكثف التدخلات الخارجية لعسكرة انتفاضة السوريين مستفيدة من اعتماد الحل الأمني للنظام، واستعداد قوى الإسلام السياسي المختلفة للعنف.

 في المرحلة الثالثة فإن الصراع المسلح بين قوى النظام العسكرية والأمنية وحلفائه من جهة وما سمي بالجيش الحر وكتائب المقاتلين المحليين والأجانب بتسمياتها المختلف وحلفائها من جهة ثانية، أخذ يرسم معالم المشهد السوري. خلال هذه المرحلة دخلت البلاد في حالة كارثية بكل المعاني الإنسانية والسياسية والأمنية والاقتصادية. 

في خريف عام 2015 وتحديداً مع بدء التدخل العسكري الروسي المباشر في الأزمة السورية بدأت مرحلة جديدة في مسار الأزمة. بالطبع كانت قد سبقت التدخل الروسي تدخلات مباشرة غير معلنة رسمياً لدول عديدة عربية وإقليمية، وأخرى بعيدة، ساهمت في تأجيج الصراع المسلح في البلد، وبعد ظهور تنظيم داعش على مسرح الأحداث في العراق وسوريا تشكل ما سمي بالتحالف الدولي بقيادة أمريكا كغطاء تدخلي.

أما بخصوص المرحلة الخامسة فيمكن القول أنها بدأت بعد هزيمة داعش وتحول الجغرافيا السورية إلى مناطق نفوذ دولية. يغلب على هذه المرحلة الطابع السياسي، أي البحث عن مخارج سياسية من الأزمة، سواء عبر مسار جنيف أو مسار أستانا، لكن دون جدوى.

بدأت المرحلة السادسة عملياً بعد عام 2019 مترافقة مع التحولات في سياسة بعض الدول العربية (الإمارات العربية، والبحرين، والسعودية وغيرها) تجاه النظام السوري، وبصورة خاصة التحولات في السياسة التركية تجاه العديد من الدول العربية وتجاه الأزمة السورية بصورة رئيسة، ما أنعش بعض الآمال بقرب الحل السياسي للأزمة السورية الذي طال انتظاره. 

على ما يبدو صارت الأزمة السورية عبئاً، ليس فقط على السوريين أنفسهم، بل وعلى العديد من الدول العربية والإقليمية والبعيدة، الأمر الذي استدعى إعادة قراءتها من زاوية تأثيرها على مصالحها المستقبلية. ورغم التردد والممانعة الخجولة لبعض الدول العربية تجاه الانفتاح على النظام أعادت أغلبية الدول العربية علاقاتها معه. وها هو مؤتمر القمة العربية في الجزائر يتخذ لأول مرة، منذ تفجر الأزمة السورية، قراراً بالإجماع للمساهمة العربية في حلها.

بدورها تركيا التي تتحمل المسؤولية الأكبر عن الأزمة السورية من خلال تأجيجها للصراع المسلح في البلد، وحشدها واحتضانها ودعمها لقوى إرهابية محلية وأجنبية، على أمل خلق مجال حيوي لها بفضاء إسلامي، تعيد النظر في الكثير من سياساتها الإقليمية تجاه بعض الدول العربية (مصر والسعودية والإمارات وغيرها)، وخصوصاً تجاه سوريا.

لقد شهد مسار السياسة التركية تعرجات كثيرة بحيث يصعب القول انها تخضع لمعايير مبدئية تسمح بقراءتها والتنبؤ بتعرجاتها، وذلك لتأثرها المباشر بمزاج أردوغان وبكيفية قراءته لمصالح تركيا. فمن سياسة “صفر مشاكل” مع الدول المجاورة إلى سياسة مشاكل كبيرة معها. واليوم يجري منعطف جديد في تركيا يحاول تسوية بعض مشاكلها. يبدو لي أن الطموح الأردوغاني بإعادة إحياء نوع من العثمانية الجديدة على شكل مجالات حيوية لتركيا في الدول الإقليمية، خصوصاً في الدول العربية، بفضاء إسلامي قد فشل وتسبب له بمشاكل في الداخل التركي أخذت تهدد جدياً مستقبله السياسي، لذلك بدأ تكويعته الأخيرة. تقول حكمة قديمة “من السهل جعل الأصدقاء أعداء، لكن يصعب بعد ذلك جعلهم أصدقاء”. ينطبق هذا القول على السياسة التركية أيما انطباق. لقد عادت تركيا جميع الدول العربية ما عدا قطر، وخصوصاً تلك التي تعد دولاً مؤثرة في المنطقة مثل السعودية ومصر والإمارات وسورية والعراق، واليوم إذ تحاول تطبيع علاقاته معها، فهذه الأخيرة غير مستعجله، ربما تنتظر نتائج الانتخابات التركية القادمة.

يجري الحديث هذه الأيام بكثافة لافتة في الإعلام عن تطبيع العلاقات السورية التركية، ويصدقها بعض اللقاءات بين مسؤولين من البلدين، مع ذلك ثمة تعقيدات كثيرة قد تحول دون ذلك على الأقل في المدى القريب المنظور. بطبيعة الحال ليس في السياسة عداوات دائمة ولا صداقات بل مصالح، لكن فيما يخص العلاقات التركية السورية يصعب التوليف بين مصالح الطرفين. بالنسبة لتركيا الأردوغانية تسببت سياسات حكومتها الخاطئة بأزمة اقتصادية عميقة وشاملة فيها، أخذت تستفيد منها المعارضة، إضافة إلى ورقة اللاجئين السوريين، لكن تبقى المسألة الأبرز في تحولات السياسة التركية تجاه سوريا هو الهاجس الكبير للحكومة التركية من تأثير طموح الكرد السوريين للفوز ببعض حقوقهم المشروعة، الأمر الذي قد يؤثر، بحسب المزاعم التركية على الأمن القومي التركي. للأسف الشديد الثابت الوحيد في السياسات التركية بغض النظر عمن في الحكم هو العداء غير المبرر للكرد.

على المقلب الآخر فإن الحكومة السورية تشرط انسحاب القوات التركية الكامل من الأراضي السورية، والتوقف عن دعم القوى الإرهابية، أو على الأقل وضع جدول زمني قصير الأجل لانسحابها، وهذا مطلب، على ما يبدو، لا تزال الحكومة التركية غير جاهزة له. ولتسوية هذه الخلافات العميقة بين الطرفين تحاول روسيا، التي لها مصلحة حقيقية بفوز أردوغان في الانتخابات القادمة، الضغط على الطرفين للقبول بحل “الخطوة خطوة “، وعلى ما يبدو قد حققت بعض النجاح، ساعدها في ذلك دخول إيران على الخط فهي بدورها لها مصلحة بفوز أردوغان في الانتخابات القادمة. مهما يكن مستقبل العلاقات السورية التركية فإن قسم كبير من الشعب السوري لن يغفر لتركيا دورها في تدمير سوريا.