في ذكرى الثورة… عن ثورتنا وثورتهم!

كانت انتفاضة الشبّان السوريين في عام ٢٠١١، تحدّياً لجدار المستحيل نفسه، بشجاعة خارقة ونبل لا مثيل له، وخصوصاً حين رفعوا للحرية والكرامة رايات وهتافات، وأثبتوا قدرة عجيبة على الابتكار… كلّ التحية لذكرى الثورة السورية، ولشهدائها من الشباب الأبرار الذين كان يمكن أن يكون لهم مكان الصدارة في سوريا المستقبل، التي حرّك الحلم بها ذلك المستنقع وحوّله إلى نهرٍ جارف.

سوف يبقى السوريون لسنوات طويلة يحتفون بذكرى ثورتهم في آذار من ذلك العام أو يستحضرونها بغضب، ربّما لأنّهم ما زالوا يأملون أن تتحقّق أهدافها أو تتجدّد مرة أخرى، وربّما كذلك لأنّهم فقدوا أملهم بذلك، وأصبحت بالنسبة إليهم مجرّد حكاية لأطفالهم في البلاد أو المهاجر والمنافي. بعضهم يقول لنفسه أو لمن حوله: هل كانت تستحقّ كلّ ما حدث لنا؟! والبعض الآخر يتمسّك بها لأنها- على الأقل- مبرّر حياته الجديدة المختلفة جذرياً عن تلك السابقة، أو مبرّر حياته نفسها واستمرارها.

يردّ بعض المصرّين على أن الثورة الفرنسية الكبرى قد ” انتصرت” على خصومهم في الرأي، بأنّها قد حققت نجاحات ثلاثة على الأقل: حين أسقطت الملكية المطلقة، وأسست للدولة القومية، وفتحت الأبواب لازدهار الطبقة الوسطى ودورها المهمّ في مسار الحداثة. وتصلح هذه النقاط الثلاث لمناقشة الحالة السورية، مع بعض التعديلات الضرورية.

أسقطت الثورة الفرنسية الملكية، لكنّها أفسحت المجال للبونابرتية لاحقاً بعد عقدٍ من بدايتها. وحين نفّذ نابوليون انقلابه العسكريّ كان ذلك برغبة من الثوّار أو قوى الأمر الواقع وقتها، الذين تعبوا من تجاربهم وتحولّاتهم، لم يخن- نظرياً- مبادئ الثورة كلّها بل اعتبر نفسه رسولها في أوروبا والعالم، كما أصدر قوانين- لم ينفّذها تماماً- تضمن المساواة بين المواطنين، ودعم العلوم والثقافة والفنون والتعليم… والخدمة العسكرية الإجبارية والتعبئة العامة، ليؤدّي ذلك إلى خسارات أكبر مما حدث في مسار الثورة ذاته.

يمكن مقارنة ذلك قليلاً أو كثيراً بمسار عسكرة الثورة السورية، ودخولها التدريجي في نفق العنف، ميدان النظام الاستبدادي المفضّل: أرضه وملعبه، على الرغم من شرعيّته حين يكون دفاعاً طبيعياً عن النفس.

في العهد النابليوني، ساد الشعار الوطني:” تحيا فرنسا”، بعد أن كان شعار الثورة المثلث هو: حرية، إخاء، مساواة. وبطريقة أخرى انعطف خط التاريخ من حامل” الحرية” إلى” الوطنية”، أو القومية. كان الانعطاف العميق في الثورة السورية حين تراجعت كلمات” الكرامة” و” الحرية” إلى الوراء لتفسح موقعاً يتقدّم بالتدريج للكلمات والشعارات والتسميات الدينية، الكفيلة في المرحلة الأولى بمواساة الضحايا والمظلومين في الأرض، ثمّ نقلهم إلي حيّزٍ أبعد عن المفهومين الليبراليين الذين انطلقت ثورة شباب سوريا تحت رايتهما. وليس من عبث أن يحدث اختلاط ما بين” القومية” و” الإسلامية”، التّي مهّدت لها بالأصل تلك” القومية الإسلامية” التي روّجت لها السلطة وأطراف في المعارضة. لقد تراجعت مفاهيم جمال الأتاسي الديموقراطية والحداثوية مثلاً بين العروبيين لتفتح طريقاً لتغلغل الإسلاموية، القادرة بدورها أيضاً على تعزية المهزومين والمحبطين.

غزت تلك الإسلاموية عقول المعارضين السوريين. يمكن الإشارة خصوصاً إلى معارضين- ليسوا بالقلة- التزموا تلك المرجعية من دون اسمها، وأصبحت تجد يسارياً أو مسيحياً يردّد جوهر المفهوم، وتنعكس تجلّياته على سلوكه وطروحاته. ما كان يجمع هؤلاء كلّهم روح انتقامية تتملّكهم، أخرجتهم من دائرة الممارسة السياسية، وجعلتهم يرفضون أيّ مشروع للتسوية، كان معقولاً وممكناً آنذاك، يحظى بشروط أفضل وأكثر إمكانية للتطبيق في حينه. ضاعت فرص عديدة، كان ضياعها يشكّل في مجموعه ما يعادل الهزيمة، أو يعادل الفشل.

هل هنالك أسباب لدخول نابوليون العسكريّ على الخط في عصر الإرهاب الذي قاده روبسبيير؟! هل أوصل الأخير بمقصلته وغرائبه الناس إلى” التوبة”؟! أم هل استطاعت الفئات الإخوانية والسلفية المتشدّدة المتنوّعة أن تخلق الشعور بالإحباط والغدر في نفوس الثوار السوريين أو السوريين عموماً، بتصعيد مظاهر تطرّفها في حالة منافسة قيامية، جعلتنا نرى خلافة لداعش، وإمارة للنصرة، وهيمنة واسعة الانتشار لعقلهما المغلق الظلاميّ؟!

ما حدث في العقدين السابقين على الثورة الفرنسية في شمال أميركا درس مختلف يسمّيه بعض الباحثين ثورة سلمية، رغم حرب الاستقلال التي تداخلت معها. كان الحراك الثوري في البداية هناك في رفض أداء الضرائب التي يشرّعها البرلمان البريطاني، لأنه “لا ضرائب من دون تمثيل”، ما دام الأميركيون غير ممثّلين في ذلك البرلمان. اختارت الولايات الثلاث عشرة ممثلين لها، ابتدأوا معاً بإدارة شؤونهم بأنفسهم. وحين حاولت بريطانيا الاستفراد بمساتشوسيتس وعاصمتها بوسطن، التفّت الولايات الأخرى حولها وابتدأ مسار الاستقلال.

في منتصف ذلك المسار” الوطني”، أعلن المؤتمر القاري الأمريكي في الرابع من تمّوز ١٧٧٦ أن الملك البريطاني جورج الثالث طاغية، وأن المستعمرات دويلات حرة ومستقلة. أعلنت وثيقة إعلان الاستقلال أن جميع الناس متساوون، على الرغم من أن ما صدر عندئذ وبعده من التعديلات الدستورية والقوانين الفيدرالية لم تمنح تدريجياً حقوقاً متساوية للأمريكيين من أصل أفريقي، والأمريكيين الأصليين، والرجال البيض الفقراء، والنساء حتى قرنين لاحقين وأكثر.

على الرغم من اعتماد تعبير” الوطنية” لوصف أولئك الثوار أنفسهم ومقاتليهم، إلّا أنها كانت وطنية الانتماء والدفاع عن الانتماء أو حب الوطن، أكثر ممّا هي وطنية القومية المتميّزة، ولدينا خلط مستدام بين المفهومين. كان إعلان الاستقلال بدوره انعكاساً للفلسفات السياسية التي حملها” الآباء المؤسّسون” من الليبرالية والجمهوريّة ورفض الملكية والأرستقراطية. تجنّبت الثورة الأمريكية بذلك ما وقعت به الثورة الفرنسية من تعلّق بالدولة القومية وطموحاتها المتفرّعة عنها. وكان لمسار وضع الدستور ثمّ اعتماده عام ١٧٨٩(عام الثورة الفرنسية نفسه)، وما تلاه مباشرة من وضع للتعديلات العشرة الأولى التي أصبح مجموعها يشكّل لائحة حقوق الإنسان في الولايات المتحدة.

المهم لنا في هذا السياق هو تركيبة صانعيه، وقدرتهم على القيادة والبحث، وحصولهم على الثقة والتفويض من مواطنيهم، سلمياً. أي أن تلك الدولة قد تأسّست داخلياً بتفاعل نخبتها ونخب ولاياتها، وتأسست خارجياً بحرب الاستقلال. لم تكن هنالك حرب داخلية، إلّا التعارض مع” الموالين” الأقلية الذين والوا الملك البريطاني، وانسحب بعضهم إلى كندا- بمعظمهم- في النتيجة.

لم تكن الثورة الفرنسية عبثاً، بل كانت استحقاقاً في زمانه ومكانه الصحيحين، وبقي أثرها عميقاً يحدّد المتغيّرات اللاحقة، في ثورة ١٨٣٠ وثورة ١٨٤٨، ليبني الجمهورية الثالثة، ثمّ الرابعة، ثم الخامسة الحالية. ولا يمكن الحديث عن هزيمتها (وهزيمتنا ) من دون أن تهتزّ وترتجف اليد التي تكتب، قليلاً أم كثيراً!

يرتجف القلب أيضاً في ذكرى الثورة والشهداء الذين نعرفهم ولا نعرفهم…