النساء.. السياسة والقانون وهذا الاحتفاء المزيّف

بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، وبتاريخ 8 آذار/مارس 2023 كتبت فالنتينا ماتفيينكو، رئيسة مجلس الاتحاد الروسي (الجمعية الاتحادية الروسية)، في مدونة على الموقع الإلكتروني للمجلس “الرجال والنساء، هم العمود الفقري البيولوجي والاجتماعي والثقافي للمجتمعات، لذلك، لا توجد ألعاب خطيرة تتعلق بالنوع في بلدنا ولن تكون أبداً. دعونا نترك الأمر للغرب لإجراء هذه التجربة الخطيرة على نفسه”. وفي تركيا، كانت قد انسحبت الحكومة قبل عامين من اتفاقية اسطنبول (اتفاقية المجلس الأوروبي لمنع العنف ضد المرأة والعنف الأسري ومكافحتهما)، وجاء ذلك تحت تبرير المحافظة على الهياكل الأسرية التي تقوّضها الاتفاقية حسب زعم مؤيدي الانسحاب منها. أما في إيران، فتخوض النساءُ حرباً ضروساً، تصاعدت وتيرتها منذ مقتل جينا أميني (مهسا أميني)، ضدّ العقلية الاستبدادية لنظام الحكم هناك، وتعاني الطالبات من موجة استهدافٍ ممنهجٍ بالمواد الكيماوية السامة، التي أصابت حتى الآن ما يربو على خمسة آلاف طالبة. أمّا في أفغانستان، فحدّث ولا حرج، خاصّة وأنّ طالبان قد تفوّقت على ذاتها بتقييد ليس فقط دراسة النساء وتعليمهن، بل وأيضاً في التضييق على عملهن، وكأنّ الأسرة الأفغانية تعيش في رغدٍ ولا تحتاج لمن يعمل بمحاذاة الرجل وربما قبله!

 وفي هذا الوقت أيضاً، يكون قدّ مرّ ما يقرب من تسعة أشهر على قرار المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية، القاضي بالسماح للولاياتِ منفردةً بتقدير حرية إصدار تشريعات تمنع الإجهاض. هذا القرار الذي ألغى بدوره قراراً سابقاً، مضى على صدوره نصف قرن من الزمان، لنفس المحكمة في قضية (رو ضدّ وايد)، وكان يجعل من حق الإجهاض حقًا دستوريًا مُصاناً. أمّا اليابان، والتي يحلو لبعض المنبهرين بها من شعوب العالم الثالث وصفها بعبارة “كوكب اليابان”، فهي تقبع في المرتبة 116 بين الدول من أصل 146 في ترتيب حقوق النساء! وليس الحال بعيدًا عن هذا لسياق في بولندا وبلغاريا والمجر، وهذا مؤشر على مدى تأثّر الحقوق المكتسبة بالأجواء السياسية السائدة في مجتمع ما، وبغير ذلك ما أمكن مثلًا تفسير هذا العِقد الناظم لحبّات متنافرة تمثل بلدانًا مختلفة في كثيرٍ من القضايا، كالدين والموروث وأسس بناء الدولة ذاتها، أي بالأجواء السياسية والاجتماعية والثقافية عمومًا.

فيما يخصّ الموقف من النساء، ما الذي يجمع بين الولايات المتحدة، التي قامت أساساً على تقديس مبدأ الحرية الفردية وعلى دورٍ أساسي تلعبه الكنيسة البروتستانتية في المجتمع، وبين اليابان في أقصى الشرق حيث الموروث الثقافي الزاخر بالولاء والطاعة للفرد، والذي كان يتجسّد باعتبار الإمبراطور مقدساً أو بمثابة إله بنص الدستور، وبين روسيا التي لم تخلُ مرحلة من مراحل تاريخها ، ربما باستثناء مرحلة الشيوعية، من التمسّك الرسمي والشعبي بالكنيسة الأرثوذوكسية على اعتبارها إحدى أهم ركائز الدولة، وبين نظامي الملالي في إيران وطالبان في أفغانستان، حيثُ العقلية الاستبدادية لنظامي حكمٍ أوتوقراطيين، لا يجدان في جعبتهما تجاه النساء، إلا سهام التضييق عليهنّ في ملبسهن وسلوكهن وعموم حياتهنّ، مستندين إلى تفسير كيفيّ ضيّق ومغلوط للشريعة، وبين الحال في بولندا التي لعبت كنيستها الكاثوليكية دوراً كبيراً في مقارعة الاحتلال السوفيتي شبه المباشر خلال القرن الماضي؟ إنّه سؤال كبير بامتياز، ويحتاج لأكثر من مقاربة لإيفائه حقه في النقاش وطرح الإجابات.

يأخذنا هذا إلى الوراء قليلاً، حيث اعتبر جون لوك أنّه “لا يجوز للدولة أو السلطة السياسية انتهاك حرمة المنزل حيث الرجل، الأب هو صاحب السيادة وله سلطة مطلقة على زوجته وأولاده وخدمه.” وهو ما كان معبراً عن واقع الحال قبل ثلاثة قرون ونصف عندما كانت النهضة في بدايتها، بينما الآن، وبعد أن قطعت الإنسانية أشواطاً في التطوّر، “اقتحم المجتمع المدني المنزل، وبعد إزالة الإله الفاني من رأس الدولة يجب أن يُزال من رأس العائلة ليسري حكم القانون هناك أيضاً.” (عزمي بشارة – المجتمع المدني، دراسة نقدية).  لكن هل يحصل هذا فعلاً، وهل ما نراه عودة في التاريخ أدراجه، ونكوصٌ إلى أزمانٍ كانت النساء فيها أقرب للجواري أو بالأحرى الأشياء التي يملكها الرجل من بين ما يملك؟ ما الذي يجعل مجتمعاً ثار قسمٌ لا بأس به منه على الاستبداد، كالمجتمع السوري، لا يحتفي بالنساء إلا إذا أصبحن تحت الثرى، وحتى هذه مسألة فيها جدل، فقد رأينا وسمعنا تقاريراً تلفزيونية تحطّ من مكانة بعضهنّ بابتذالٍ شديدٍ ورخُصٍ غريبٍ وبغير وجه حق مطلقاً. وهذا ما حصل مع المرحومتين بسمة قضماني ورئيفة سميع، في حياتهنّ وفي مماتهن، ومئات النساء مثلهنّ من ذوات الهمم العالية والشرف الرفيع والطموح العظيم! ألم تقم هذه الثورة أساساً لإعلاء كرامة الإنسان، وتحقيق حريته؟

تلعب السياسة، بالدرجة الأولى، الأدوار المباشرة في هذا التراجع عن المكتسبات الحقوقية للنساء وغيرهنّ من الفئات المهمّشة، فصعود ترامب وما رافقه من ظاهرة أخذت اسمها منه، كان التعبير عن أزمة وصلت إليها الديمقراطية الليبرالية في الغرب على مدار مئتي عام من الممارسة السياسة والحقوقية، حتى استنفذت حدودها وإمكانيات تطورها، ما دامت لم تقفز خطوات أكثر جرأة واتساعاً في اتجاه الاقتصاد. الحقوق هنا ليست مطلقة، فمن يملك مالاً أكثر، يملك حضوراً أكبر في الفضاء العمومي، وهذا يفسح المجال واسعاً أمام هؤلاء بطبيعة الحال لاستلام السلطة، ويولّد لهم مساحاتٍ أوسع للحصول على ميزاتٍ أكبر، وباعتبارهم معرّضون للأهواء ولتطوير مصالح شخصية، فإنّهم يتصرفون وكأنهم يعيدوا التاريخ القَهقرى.

وتأتي عوامل الصراع الثقافي لتعزز في الشرق هذه النزعة، بحيث تصبّ التيارات المحافظة هناك جام غضبها على الغرب، كما فعلت فالنتينا ماتفيينكو، فتجعل منه سبب كلّ نقيصة، وتصدّر قيمها على أنها الوحيدة الجديرة بالاعتبار. ورغم ما وصلته النساء والفئات المهمّشة من مراتب متقدّمة في بعض الدول، مثل السويد وكندا وغيرهما، يبقى الصراع طويلاً جداً، وسيأخذ مداه بعيداً حتى يتحوّل الاحتفاءُ بالنساء من الزيفِ إلى الحقيقة.