أبعاد عودة العلاقات السعودية الإيرانية وأثرها على سوريا ودول أخرى
دمشق – نورث برس
ضجة إعلامية وتكهنات، تركها إعلان تاريخي عن عودة العلاقات السعودية الإيرانية بتوسط صيني يقابله تشكيك أميركي، لتطوي عقود من الصراع بين البلدين وما لذلك من آثار على دول عربية لطالما عانت من النفوذ الإيراني وهي اليمن وسوريا والعراق ولبنان.
فبعد مباحثات دولية مشتركة بين الجانبين السعودي الإيراني وتحت رعاية صينية في بكين بمبادرة من الرئيس الصيني شي جين بينغ، صدر يوم أمس 10 آذار/ مارس بيان مشترك يفيد بعودة العلاقات السعودية الإيرانية.
وقد لا يكون الإعلان مفاجئاً في دهاليز الدبلوماسية الدولية التي شهدت تغييرات ملموسة بعد عامٍ من الحرب في أوكرانيا، واصطفاف التحالفات الدولية معظمها والغربية منها بوجه روسيا، وأخرى شرقية وشرق أوسطية نأت بنفسها إلى حد ما عن الصراع عبر الحفاظ على نوع من التوازن بين الغرب والشرق.
وكانت السعودية والإمارات الشريكان القويان في مجموعة أوبك بلص النفطية – مثلتا في الآونة الأخيرة رياحاً لا تشتهيها السفن الأميركية، حيث ظلت على اتصال دبلوماسي مكثف مع موسكو والتزمت بقرارات مشتركة فيما يخص أسعار النفط والإنتاج العام الماضي.
أثار ذلك الموقف أول مرة غضب بعض الساسة الأميركيين، واعتبروه تخاذلاً للتوجه المناهض لروسيا المتمدد صوب الحدود الشرقية الأوكرانية، بينما تواصل موسكو وهي تحت ثقل العقوبات، حرب استنزاف مع كييف منذ أكثر من عام.
أما اليوم، فقد تضمن البيان السعودي الإيراني الذي أثار دهشة الرأي العام، استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما خلال مدة أقصاها شهران.
وكانت السعودية وإيران بدأتا بحلول عام 2021، بالانخراط في محادثات مباشرة منخفضة المستوى، استضافتها العراق وسلطنة عمان لاحقاً، لتتكلل أمس بعودة العلاقات.
وتعهدت الدولتان على عدم التدخل في شؤونهما الداخلية، فضلاً عن تعزيز السلم والأمن الإقليمي والدولي.
وأعربت الرياض وطهران عن استعدادهما لتفعيل اتفاقية التعاون الأمني بينهما، الموقعة في 2001 والاتفاقية العامة للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب، الموقعة في عام 1998.
بعد تاريخٍ من الصراع
اتسمت العلاقات بين السعودية وإيران على مدار ثمانية عقود مضت بالصراع والاحتقان الشديدين بسبب خلافات سياسية وعرقية ومذهبية ومنافسة على قيادة العالم الإسلامي.
ورغم خلافها مع نظام الشاه البهلوي، أعربت السعودية عن وقوفها معه بعد أن أطاحت به “ثورة الخميني الإسلامية” عام 1979، فبقت العلاقات تشهد توتراً بسبب أبعاد مذهبية و ليست مشاكل سياسة ونفوذ فحسب.
ومع وصول الرئيس المحافظ أحمدي نجاد للسلطة الإيرانية ومع تطور البرنامج النووي الإيراني وسيطرة الأحزاب الشيعية المتحالفة مع إيران على السلطة في العراق الجار الشمالي للسعودية، عاد التوتر إلى أوجه، وتلا ذلك اشتباكات حدودية بين السعودية والحوثيين 2009 – 2010.
كما تخلل التوتر آنذاك، محاولة اغتيال السفير السعودي في واشنطن عام 2011، ثم التدخل السعودي العسكري في البحرين 2011 أعقاب الاحتجاجات البحرينية التي اتهمت فيها إيران بدعم جماعات معارضة شيعية، كذلك قيادة السعودية تحالفاً عربياً لمكافحة الحوثيين المدعومين من إيران.
وتضمنت عقود طويلة من الخلافات السياسية، ملفات أخرى تتعلق بالحج والحجاج الإيرانيين.
وفي عام 2016 أعدمت السلطات السعودية “نمر النمر” وهو عالم دين شيعي سعودي ذو نشاط سياسي معارض، وله روابط بالنظام الإيراني، أُعدم هو من ضمن 47 شخصاً بتهم متعلقة “بالإرهاب”، معظمهم مرتبطون بتنظيم القاعدة، إلا أن أربعة من المتهمين وبينهم النمر كانوا من الشيعة المقربين من إيران، وأدى ذلك إلى ارتفاع حدة التوتر بين البلدين بشكل كبير.
وأعلن وزير الخارجية السعودية (وقتها) عادل الجبير، قطع العلاقات الدبلوماسية بين طهران والرياض، وطالب أعضاء البعثة الدبلوماسية الإيرانية بمغادرة السعودية خلال 48 ساعة.
وبلغ الصراع ذروته في هجوم بالصواريخ والطائرات بدون طيار على منشآت النفط السعودية في عام 2019. وأدى هذا الهجوم إلى تعليق أكثر من 5٪ من إنتاج النفط الخام اليومي في العالم. واتهمت الولايات المتحدة والسعودية إيران برعاية الهجوم، وهو ادعاء نفته إيران.
أثرها على دول تشهد توغلاً إيرانياً
لعل أبرز الدول التي تتأثر بالتقارب المعلن، هي ذاتها التي تشهد تحركاً واضحاً لجهات سياسية وعسكرية موالية لطهران، على رأسها اليمن متمثلةً بجماعة الحوثي، وسوريا حيث “النظام” المدعوم من إيران، كذلك لبنان المتأزم سياسياً واقتصادياً في ظل نفوذ حزب الله، وأيضاً العراق الساحة الأقرب بالنسبة للتوغل الإيراني عبر الحشد الشعبي وأطراف سياسية شيعية.
فالنسبة للعراق الذي أعرب عن “ترحيبه” بالاتفاق، معتبراً أن ذلك بداية لـ”صفحة جديدة” من العلاقات بين البلدين، افتخر في عدة مناسبات بموقفه الوسيط، وذلك بعد أن أصبحت بغداد إلى جانب مسقط، ساحة لاجتماعات بين دبلوماسيين سعوديين وإيرانيين العام الفائت، في محاولة لتسخير التقارب بإنجاح عمليتها السياسية وخلق توازن مع جارتيها الجنوبية (السعودية) والشرقية (إيران).
واعتبرت الخارجية العراقية أن الاتفاق الذي كُشف عنه أمس الجمعة، هو بداية “صفحة جديدة من العلاقات الدبلوماسية بين البلدين”، مشيرةً إلى “المساعي التي بذلتها الحكومة العراقية في هذا الإطار”.
وترى بغداد هذه الخطوة “مهمة” وستقود إلى تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة وإلى التعاون الذي سينعكس إيجابياً على المصالح العراقية.
وفي اليمن، تسعى السعودية إلى وقف دائم لإطلاق النار وطريقة للخروج من حرب استمرت لسنوات ضد جماعة الحوثي المدعومة من إيران هناك.
و قد يؤدي استئناف العلاقات مع إيران إلى تقليل شحنات الأسلحة إلى الحوثيين والمساعدة في إنهاء الحرب في اليمن.
وكأول تعليق له بهذا الخصوص، قال الناطق باسم جماعة الحوثيين في اليمن محمد عبد السلام، إن المنطقة بحاجة لعودة العلاقات الطبيعية بين دولها.
أما بالنسبة لسوريا فمن المرجح أن تؤثر علاقات السعودية وإيران بشكل إضافي على الصراع الطويل في البلد.
ولطالما دعمت السعودية معارضة سنية بوجه الرئيس السوري بشار الأسد، المدعوم من إيران وروسيا.
وأدى الصراع في سوريا إلى طريق مسدود وعزلها دبلوماسياً، بينما شهدت تحولاً بعد الزلزال المدمر، لتتطلع المزيد من الدول العربية إلى إعادة العلاقات مع دمشق.
وبعد عقدٍ من انقطاع العلاقات بين دمشق والرياض، قد تعود تدريجياً حسبما يلوح إليه المسؤولون السعوديون.
وقال وزير الخارجية بن فرحان الثلاثاء الفائت، إن عزل سوريا “لا يجدي” وأن الحوار مع دمشق “ضروري”، مشيراً إلى إمكانية عودة دمشق إلى جامعة الدول العربية.
وتعتبر دمشق الخطوة السعودية الإيرانية مسلكاً نحو “تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة وتعاوناً سينعكس إيجابياً على المصالح المشتركة”.
وفي لبنان الجارة الشمالية لإسرائيل، كان حزب الله بقيادة حسن نصر الله الموالي بشدة لإيران، هدفاً إعلامياً مندداً به على الشاشات السعودية التي دعمت التيار السني بقيادة رفيق الحريري سابقاً ونجله حالياً، ما يعني أن الاتفاق الأخير مع إيران، قد يثير تساؤلاً عن موقف الرياض تجاه العملية السياسية المتأزمة في هذا البلد.
وفيما سخرت المعارضة الإسرائيلية التطور أداةً لشن هجوم على خصومها في الحكومة، حيث اعتبر زعيم المعارضة يائير لابيد الاتفاقية بمثابة فشل ذريع وخطير للسياسة الخارجية للحكومة الإسرائيلية التي يتزعمها حاليا بنيامين نتنياهو، وقال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله إن الاتفاق “أمر جيد ويأتي لمصلحة شعوب المنطقة وسيفتح آفاقاً في عدة دول أولها لبنان”.
ترحيب إقليمي ودولي
قالت الولايات المتحدة أمس الجمعة في أول رد فعل دولي، إنها ترحّب باستئناف إيران والسعودية علاقاتهما الدبلوماسية لكنها أعربت بالمقابل عن “شكوكها في احترام طهران لالتزاماتها”.
وقال الناطق باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي: “سوف نرى (…) ما إذا كان الإيرانيون سيحترمون جانبهم من الاتفاق، فهذا ليس نظاماً يحترم كلمته عادة”.
وقال كيربي “نرغب في رؤية نهاية الحرب في اليمن وأن هذا الترتيب الذي توصلوا إليه قد يساعدنا في الوصول إلى هذه النتيجة”.
كما استقبلت سلطنة عمان الاتفاقية بترحيب كبير، معربةً عن أملها في أن يسهم ذلك في تعزيز ركائز الأمن والاستقرار في المنطقة.
وصدرت مواقف أخرى مرحبة بالاتفاق عن السلطة الفلسطينية والسودان و زعماء مجلس التعاون الخليجي.
وقالت الخارجية المصرية، إنها تابعت باهتمام الاتفاق الذي تم الإعلان عنه، وتتطلع بأن “يسهم في تخفيف حدة التوتر ويعزز الاستقرار ويحافظ على مقدرات الأمن القومي العربي”.
هذا ورحبت وزارة الخارجية التركية بالاتفاق وهنأت الدولتين على ذلك، وجرى اتصال ترحيب هاتفي بين وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، ونظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان.
كما أعلنت الجزائر ترحيبها بعودة العلاقات واعتبرت أن ذلك يسهم في تعزيز السلم والأمن بالمنطقة والعالم، وكذلك قالت الحكومة الأردنية.
والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أيضاً، قال إنه يرحب باتفاق السعودية وإيران مقدراً جهود الصين لاستضافتها المحادثات الأخيرة وعملها لتعزيز الحوار بين الدولتين.
واعتبر الأمين العام للمنظمة الدولية علاقات حسن الجوار بين السعودية وإيران، أساسية لاستقرار منطقة الخليج.
من جهتها هنأت موسكو على لسان نائب وزير خارجيتها ميخائيل بوغدانوف، إيران والسعودية والصين على التوصل إلى اتفاق عودة العلاقات بين الرياض وطهران، وقالت إنها “تتماشى مع المبادرات الروسية الرامية إلى إنشاء منظومة للأمن في منطقة الخليج ذات الأهمية الاستثنائية على المستوى الاقتصادي العالمي”.
تمدد صيني وتشكيك أميركي
ورداَ على سؤال حول الدور الصيني “غير المعتاد” في جمع إيران مع السعودية (حليفة الولايات المتحدة)، قال الناطق باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي، إن إيران حضرت إلى طاولة المفاوضات بسبب “الضغوط التي تتعرض لها” في الخارج والاستياء الداخلي.
وأضاف “نحن بالتأكيد نواصل مراقبة الصين فيما تحاول كسب نفوذ وإيجاد موطئ قدم لها في أماكن أخرى في العالم من أجل مصلحتها الضيقة (..) لكن في النهاية إذا كانت استدامة هذا الاتفاق ممكنة، بغض النظر عن الدافع أو من جلس إلى الطاولة… نحن نرحب به”.
ومع ظهور ملامح تقاربات صيني- روسي، وما تصفه الولايات المتحدة تهديدات صينية في شرق آسيا وتمدد اقتصاد بكين إلى حدود دول الخليج، فقد مثلت رحلة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى السعودية في كانون الأول/ ديسمبر العام الفائت، رسالة تنافسية قوية مع الولايات المتحدة.
وجاء ذلك على الرغم من مناشدات واشنطن المتكررة لحلفائها العرب في الخليج لرفض الخطط التجارية التي تقدمها الصين للمنطقة.
ويتخوف الغرب من توسيع البصمة الصينية الجيوسياسية في الفناء الخلفي السابق للولايات المتحدة، في وقتٍ تتطلع فيه بكين إلى المزيد من النفط السعودي وتطوير التبادل التجاري.
ويمثل الاقتصاد كنتيجة التقارب الأخير بين إيران والسعودية، قاسماً مشتركاً بالنسبة للصين، ومنافسة مع الغرب في منطقة الشرق الأوسط.
وبالنسبة لإيران، اتضح أن بكين تسعى منذ وقت طويل إلى تعزيز علاقاتها مع طهران. وكان الرئيس شي جين بينغ قد زار إيران في الأسابيع الأولى من دخول الاتفاق النووي حيز التنفيذ، والتقى حينها المرشد الإيراني علي خامنئي.
وكذلك الزيارة التي قام بها الرئيس الإيراني إلى بكين منتصف شهر شباط/ فبراير الفائت، عكست رهاناً صينياً واضحاً على دور إيران كمزود رئيسي للطاقة.
بينما ترى طهران أن بكين محطة رئيسية في تنفيذ إستراتيجية التوجه شرقاً التي يعتمدها النظام الإيراني للنجاة من الضغوط الغربية المتزايدة، لاسيما في ظل عدم وجود أي مؤشرات على رفع العقوبات المفروضة على إيران.