دمشق- نورث برس
في الساعة الخامسة فجراً من يوم 24 شباط/ فبراير 2022، أيقظت صافرات الإنذار سكان أوكرانيا، استعداداً لحربٍ اعتقدها الكثيرون أنها قد لا تطول سوى أسابيع قليلة أو شهرين على أكثر تقدير، بينما يمر اليوم عامٌ على أكثر الصراعات دمويةً في القارة العجوز منذ الحربين العالميتين، وما خفي فيه كان أعظم.
مقدمة
قبيل الحرب طالبت روسيا للولايات المتحدة والناتو “بالضمانات الأمنيّة” بما في ذلك تعهد ملزِمٌ قانونًا بعدم انضمامِ أوكرانيا إلى منظمة حلف شمال الأطلسي وكذلك خفض قوات الناتو والعتاد العسكري المتمركز في أوروبا الشرقية، وهدَّدت بِرد عسكري “غير محدد” إذا لم تلبَّ هذه المطالب بالكامل.
وبينما اصطفت عشرات الآلاف من القوات الروسية بعدتها وعتادها على طول الحدود الشرقية والشمالية لأوكرانيا بزعم إجراء “تدريبات عسكرية”، رفع الرئيس الأميركي جو بايدن وقادة غربيون، السرية عن المعلومات الاستخباراتية التي أظهرت أن الهجوم على أوكرانيا بات وشيكًا.
وتمت مشاركة تلك المعلومات مع الحلفاء، في محاولة لحشد الدعم ووقف الحرب، لكن المحاولة باءت بالفشل. فبدأ الهجوم وبدأت معه التداعيات الكبرى وراح ضحيتها ملايين المدنيين بين قتيل وجريح ونازح، حيث دمرت جملة من الهجمات الصاروخية في جميع أنحاء أوكرانيا المنازل والبنى التحتية، وأغرقت معظم أوكرانيا في الظلام.
وبعد مرور عام على الحرب، شكلت الحرب نقطة تحول في تاريخ العالم. بعد أن تحدى الصراع أبسط افتراضات الأوروبيين حول أمنهم، فأعاد شبح المواجهة النووية، وعطل الاقتصاد العالمي، وترك خلفه أزمات الطاقة والغذاء.
خارطة المعارك- سيطرة وانسحاب
في بداية الحرب، كان واضحاً أن النيران الروسية تستهدف أبعد النقاط الأوكرانية بما في ذلك العاصمة كييف، لتجهز على مناطق مخطط للسيطرة عليها في الجنوب والشرق.
وتعرضت العاصمة الأوكرانية في الأيام الأولى من الهجوم لحصار وقصف بوابل من الصواريخ، تلاه تقدم روسي سريع. اعتقد مراقبون أنها قد تسيطر على كييف في غضون أيام، لكن ليس مع تدفق الدعم الغربي لأوكرانيا البلد الذي اعتبر انتصاره أو هزيمته تعني انتصاراً أو هزيمة للغرب برمته.
وسرعان ما تغير المخطط العسكري الروسي بحلول شهر نيسان/ أبريل، وانسحبت القوات الروسية من محيط العاصمة وشمال البلاد وعززت قواتها على مناطق الجنوب والشرق.
ويرجع ذلك، إلى أن روسيا أدركت فعلاً أن التقدم في القمق الأوكراني سيضعها في مأزق واستنزافين كبيرين، بينما تشير روايات مستقلة أن روسيا كانت قد تعمدت أساساً بشن هجوم واسع النطاق في البداية لتشتيت الصفوف الأوكرانية، ومن ثم التركير على المناطق القريبة من حدودها التي يرغب السيطرة عليها.
تشير آخر خريطة ميدانية إلى أن الهجوم المضاد المفاجئ لأوكرانيا منذ خريف العام الفائت، أي بعد تسعة أشهر من انطلاق الحرب، قلل من سيطرة القوات الروسية على أراضٍ أوكرانية وأصبحت أقل بكثير مما كانت عليه بعد توغلها الأول في البلاد في فبراير/ شباط 2022.
وتلقت روسيا خسارة ميدانية كبيرة في الأشهر الثلاثة الأخيرة من الحرب، وخاصة بعد أن صوت الكرملين على ضم أربع مناطق أوكرانية ـ لديه سيطرة جزئية عليها فقط – لتنضم إلى منطقة القرم منذ عام 2014.
والمناطق التي تخضع للسيطرة الروسية حتى الآن هي جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبية “الانفصاليتين”، وهما كانتا بالأصل غير خاضعتين للسيطرة الأوكرانية حتى قبل الحرب، وأضيف إليهما أجزاء منطقتي زاباروجيا وخيرسون، لتشكل بالمجمل حوالي 15% من الأراضي الأوكرانية.
وتبقى هذه الخارطة أولية وقابلة للتغير مع استمرار الحرب، وإصرار أوكرانيا على استرجاع مناطقها.
الضحايا
قالت الأمم المتحدة في وقت سابق هذا الشهر، إن حملات روسية قتلت ما لا يقل عن 7199 مدنياً خلال العام الماضي، وأصيب 11756 آخرين. وقال مسؤولو الأمم المتحدة إن الرقم الحقيقي قد يكون أعلى من ذلك بكثير وربما الضعف.
وشهدت الفصول الأربعة السابقة بعض أكثر المعارك دموية على الأراضي الأوروبية منذ أجيال، وقتل عشرات الآلاف من القوات الروسية والأوكرانية. وتعرضت البنية التحتية للطاقة ومراكز المدن والمباني السكنية لأضرار كبيرة.
وعدد القتلى والإصابات التي أبلغت عنها أوكرانيا وروسيا في صفوف جيشيهما تختلف عن تلك التي قدمها المراقبون الدوليون، لتبقى الحصيلة الرسمية مبهمة على مدار الأشهر الـ12 من الحرب.
وكانت آخر حصيلة مثيرة للجدل، أعلنها رئيس مجلس قيادة الأركان في الجيش الأمريكي الجنرال مارك ميلي في تشرين الثاني/ نوفمبر، حيث أفاد بسقوط 100 ألف جندي روسي، وعدداً مماثلاً من الجنود الأوكرانيين.
كما قال إن التقديرات تشير إلى مقتل 40 ألف مدني في الحرب. وتعدّ هذه الأرقام أعلى تقديرات تصدر عن مسؤول غربي حول الحرب حتى الآن.
وتسببت الحرب بنزوح ما لا يقل عن أربعة ملايين إلى خارج البلاد والملايين الآخرين محلياً، فيما كان ولازال من أبرز تداعياتها على العالم هو تشكيل أزمة غذاء دولية وارتفاع في الأسعار أثر بشكل بالغ على البلدان النامية.
الخسائر
في تقييم مشترك صدر في شهر أيلول/ سبتمبر، تقدر حكومة أوكرانيا والمفوضية الأوروبية والبنك الدولي، أن التكلفة الحالية لإعادة الإعمار والتعافي في أوكرانيا تبلغ 349 مليار دولار، ومن المتوقع أن هذا الرقم قد ارتفع مع استمرار الحرب ودخوله عامه الثاني.
ويشمل التقييم ما أعلنه البنك الدولي عن آثار الحرب المستمرة بين 24 شباط/ فبراير و1 حزيران/ يونيو 2022، ووجد أن الأضرار المادية من الحرب وصلت إلى أكثر من 97 مليار دولار. وقد كانت عالية بشكل خاص في قطاعات الإسكان والنقل والتجارة والصناعة.
وفقًا للبنك الدولي، قُدر إجمالي الأضرار التي لحقت بقطاع الإسكان في أوكرانيا بحلول بداية حزيران/ يونيو 2022 بحوالي 39.2 مليار دولار. تضررت أكثر من 817 ألف وحدة سكنية، 38 في المائة منها دمرت بشكل لا يمكن إصلاحه.
وفي قطاعات أخرى، قدر البنك الدولي خلال أقل من خمسة أشهر الأولى من الحرب، خسائر قطاع النقل بـ 26 مليار دولار، الصحة بنحو 6.4 مليار دولار، أما القطاع الزراعي وهو المزود الرئيسي للناتج المحلي الإجمالي للبلاد، فقد خسر بـ 28.3 مليار دولار.
وهذه الأرقام لا تشمل الخسائر التي لحقت بالقطاعات الأوكرانية خلال النصف الثاني مع عام الحرب.
في الجانب الآخر، لحقت خسائر كبيرة بروسيا جراء العقوبات واستمرار الحرب، رغم أن الثمن كان باهضاً لدى الغرب الذي لا يملك بيانات دقيقة حول حجم الأضرار التي لحقت بالاقتصاد الروسي بسبب أن الكرملين ينشر “بيانات مضللة”.
وقدرت وكالة بلومبيرغ أن الاقتصاد الروسي في طريقه لخسارة 190 مليار دولار من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2026 ، مقارنة بمسار ما قبل الحرب.
وعانت روسيا من عجز في الميزانية قدره 47 مليار دولار. وكان هذا ثاني أعلى عجز تشهده البلاد في حقبة ما بعد الاتحاد السوفيتي.
توحيد الجبهات بالدعم والعقوبات
مع استمرار الحرب، ظل الحلفاء الأميركيون والأوروبيون يقدمون المساعدة والتدريب والإمدادات. وتطورت في وقت سابق من هذا الشهر إلى السماح بإرسال أسلحة جديدة، بما في ذلك الدبابات ومنظومات دفاع جوية وصواريخ بعيدة المدى إلى أوكرانيا.
في غضون الشهر الأول من الهجوم على أوكرانيا، وقف في صفٍ واحد بوجه روسيا، تحالف بقيادة الولايات المتحدة، الذي يضم أكثر من 30 دولة وشملت مجموعة الدول السبع واستراليا، ما يمثلون أكثر من 50 في المائة من الاقتصاد العالمي.
في بعض الأحيان شهد التحالف الذي أجمع على استهداف شتى القطاعات الروسية بما في ذلك النفط والطاقة والبنوك ورجال الأعمال، إضراباً وتقاعساً في مستوى فرض العقوبات لما لها من تداعيات عكسية، وخاصة على صعيد الطاقة، حيث كانت أوروبا تعتمد بشكل كبير على موسكو.
وفي آخر دفعة مساعدات أميركية، أعلن بايدن تقديم 500 مليون دولار إضافية كمساعدات عسكرية.
كما قد تصل شحنات الطائرات المقاتلة في المستقبل ، قابله تهديداً صادراً عن بوتين بدفع دول أخرى إلى الصراع إذا استمرت تلك الإمدادات العسكرية في الوصول.
ووصل إجمالي قيمة المساعدات التي تعهدت بها واشنطن وسلمتها الآن إلى 73.1 مليار يورو، مقارنة برقم الاتحاد الأوروبي البالغ 54.9 مليار يورو.
وفي المجموع، تم تقديم 128 مليار يورو أو الوعد بها كمساعدات لأوكرانيا.
واعتبارًا من فبراير الماضي، وضع الرئيس بايدن استراتيجية شاملة لدعم أوكرانيا، والتي تشمل الاستفادة من أدوات بلاده الاقتصادية.
ويجري السباق الغربي في مضمار تقديم المساعدات لأوكرانيا مع دخول الحرب عامها الثاني، بينما تواصل أوكرانيا بلا شك السعي للحصول على المزيد من حلفاء الناتو.
بعد كل هذا الدعم المباشر والعلني من الغرب، إذا توقف الأخير عن دعم أوكرانيا، فإن ذلك قد يسجل انتصاراً لبوتين، ما سيكون بمثابة هزيمة الولايات المتحدة وأوربا. ولعل هذا الأمر أكثر ما يشجع على استمرار الدعم لأوكرانيا واستنزاف القوة الروسية، حتى لو تحول الصراع إلى نطاق أوسع بين الغرب والشرق.
في الجانب الشرقي من العالم بدأت ملامح توحيد جبهات حلفاء مضادين تظهر من خلال التقاربات الصينية الروسية، إذ مع التهديد الصيني المتصاعد في شرق آسيا واجتياح اقتصاده حدود دول صوب المتوسط، قد تقود بكين وموسكو إلى أن تعلنا جهاراً بأن واشنطن على رأس مجموعة دول غربية هم عدوهما المشترك.