أحوال السوريين في أعقاب زلزال الشمال

ينفض الشمال السوري عنه ركام وغبار نكبة الزلزال الذي ضرب مدنه وقراه بعد حوالي 12 عاماً من الزلزال الذي تسبب به سلاح نظام الأسد وحلفائه، ليستمر هذا الشعب في مواجهة الموت وحيداً بعد أن خذله الجميع بما في ذلك المجتمع الدولي، وتحديداً الأمم المتحدة.

 اعتذر وكيل الأمين العام للأمم المتحدة ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ مارتن غريفيث، عن التأخير بمساعدة منكوبي الزلزال في مناطق سيطرة المعارضة، “خذلنا سكان شمال غربي سوريا، إنهم على حق في شعورهم بالتخلي عنهم، يتطلعون إلى مساعدة دولية لم تصل أبداً”، لكن حتى مع هذا الاعتذار فقد تبين لاحقاً بأنه تصريح سطحي، بعد أن أعقبه توقف عبور المسؤولين الأمميين الحدود التركية إلى سوريا بأمر من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.

الأمم المتحدة التي غابت عن العمل الإغاثي في الأيام الأولى، عادت لتطلق عبر الصندوق الإنساني سلسلة من الاحتياطيات والمخصصات، التي تهدف إلى الإفراج عن 50 مليون دولار على الأقل، للاستجابة الإنسانية عقب كارثة الزلزال، رغم أن نائبة مبعوث الأمم المتحدة الخاص لسوريا، نجاة رشدي، قالت إن أكثر من 8.8 ملايين شخص تضرروا بسبب كارثة الزلزال في سوريا، و”من المتوقع أن تحتاج الأغلبية إلى شكل من أشكال المساعدة الإنسانية”، ووعدت أن صندوق المخصصات المالية سيطرح على مرحلتين، الأولى 30 مليون دولار بهدف الاستجابة الفورية المنقذة للحياة، فيما ستخصص في المرحلة الثانية 20 مليون دولار لإنقاذ الأرواح والحفاظ على الحياة.

خبراء اقتصاد سوريون قدروا الخسائر الأولية للزلزال الذي ضرب سوريا في 6 شباط/فبراير، بسبعة أضعاف الناتج المحلي، أي نحو 44.535 مليار دولار.

على الأرض، لم تعد المقابر الجماعية مشهداً غريباً، بعد أن عجت سوريا بمقابر ضحايا تنظيمي “داعش و”جبهة النصرة” ونظام الأسد؛ فالآلاف قضوا بالزلزال أو تحت الأنقاض وتعذر انتشالهم، ومعظم من يملك القدرة على المساعدة جلس يتفرج ويستمع لأصوات السوريين المحتجزين تحت الأنقاض، بعد أن أوقفت الأمم المتحدة شحناتها في الأيام الأربعة الأولى للشمال السوري، وفي الأيام الأولى من النكبة دخل وفد أممي طُلب إليه زيارة أحد أهم المواقع المنكوبة في مدينة جنديرس، غير أن المسؤول الأممي رفض الزيارة متذرعاً بأن “التعليمات من رئاسة الأمم المتحدة” تمنعه من الزيارة، وهكذا تُرك السوريون وحيدين يصارعون الموت المباغت، فيما انطلق رجال الدفاع المدني “الخوذ البيضاء” منفردين دون معيل أو سند، وبقدراتهم المحدودة فنياً رفقة متطوعين مدنيين من شباب الشمال قدموا ما تعجز عنه قدرات دول كبيرة، لكن جهود “الخوذ البيضاء” والمتطوعين لم تستطع تغطية كامل مساحات الكارثة التي تناثرت في مدن وبلدات شمال غربي سوريا.

 في معظم الدول العربية، وفي سوريا أيضاً، يقال بأن “الجيش للحرب والإعمار”، غير أن معظم فصائل الجيش الوطني آثرت متابعة آثار نكبة الزلزال عبر الشاشات، حتى أن بعض القادة عندما سُئل عن سبب عدم تدخل عناصره للمشاركة وإنقاذ الناس قال: “تلك المناطق لا تخضع لسيطرتنا وهي للفصيل الفلاني”، بناءً على التقسيمات والمحاصصات ودويلات المزارع التي رسمتها خرائط أمراء حرب الجيش الوطني.

أما المجالس المحلية فعدا عن كونها “صورية”، فلم تملك ما تقدمه للناس في تلك الأوقات، إلا أن قسماً كبيراً منها اعتبر الزلزال وسيلة وفرصة يجب عدم تفويتها من خلال السطو على المساعدات والتحكم بتوزيعها، أو بيعها في بعض الحالات، خاصة في مسألة توزيع الخيام، التي كان مقرراً لها أن تذهب مجاناً للمشردين في العراء، إذ إنها بيعت وتراوح سعر الواحدة منها من 100 إلى 150 دولار، واضطر مستحقوها شرائها لإيواء عائلاتهم المنتشرة تحت الأشجار والشوارع في هذا البرد القارس، أو وزعت تلك الخيام على غير مستحقيها من الميسورين وأصحاب الأموال، وبالتالي نصبها في حدائق منازلهم خشية هزات ارتدادية أو زلازل أخرى.

ليست المجالس المحلية فقط من غابت بل كل وزارات ومؤسسات ما يسمى بالحكومة السورية المؤقتة؛ فالقضاء غاب عن أي تحقيقات، خاصة أن معظم بيوت الشمال بُنيت من قبل جشعين ونافذين وبشكل مخالف وعلى عجل، من أجل الاستفادة المادية من ريوع الإيجارات، ولم تراع خلال تشييدها ضوابط البناء المقاوم للزلزال، مع غياب كامل للدوائر الفنية، التي يُفترض أنها تخضع لرقابة المجالس المحلية التي تقوم بدور البلديات، ولم تتوفر في تلك الأبنية المقامة الشروط اللازمة لتحقيق الحد الأدنى المقبول من مقاييس السلامة والصحة العامة، كما أن الأمن اختفى، والخدمات تلاشت، ومعظم مفاصل الحكومة كانت تعمل تحت عنوان: كم سأجني من تلك الكارثة!

طريقة تعاطي الحكومة المؤقتة كانت كارثية. في تلك الظروف يفترض أن تُجيّر كل الجهود لمساعدة المنكوبين، وتجاوز الأجندات السياسية، والخلافات الثانوية تحت وطأة الحاجة لإنقاذ الناس من تحت الأنقاض، وتأمين مقومات العيش والبقاء، إذ كانت هناك الكثير من الأخطاء خاصة مع عرقلة استلام الكثير من قوافل الإغاثة التي تطوع البعض لتقديمها للمنكوبين كما حصل مع القوافل القادمة من شرقي الفرات، فمنها ما تم منع دخولها، ومنها ما تم التلاعب فيها، وفي الحالتين دفع المواطن السوري ثمن تلك التصرفات  غير المسؤولة.

وحده التماسك المجتمعي والتكافل في المشاركة بكل أعمال الإنقاذ والبحث من قبل المتطوعين هو ما كان يثلج الصدور؛ فكانت النكبة عامل توحيد وتجميع ومشاركة لإيمانهم بالمصير الواحد، حتى أن البعض تقاسم رغيف الخبز مع العائلات المتضررة وهو المحتاج، وتقاسموا المسكن والمأكل والمشرب، واستطاعت الحوالات المالية من الخارج والمساعدات بين السوريين التخفيف من وطأة نكبة الزلزال، غير أن تلك المبادرات الأهلية لم تستطع سد فجوة بعض الجشعين من أصحاب العقارات الذين رفعوا الإيجارات بنسبة عالية للنازحين والمهجرين من المشردين الذين لحقت بهم نكبة الزلزال، لتضيف إلى تشردهم تشرداً، لذلك كان هناك من رفض مغادرة منزله المتصدع خشية التشرد، إذ إنهم شاهدوا ما حل بمن افترشوا الأرض دون معيل.

بالمقابل نجح نظام الأسد في الاستثمار السياسي والاقتصادي بنكبة الزلزال وحصد مئات ملايين الدولارات، بعد أن قامت سلطات الأسد بإدراج مناطق واسعة على أنها تضررت بالزلزال، بهدف السطو على مساعدات دولية، في وقت يعلم الجميع أن تلك المناطق دمرتها آلة الأسد العسكرية وحلفائه، والتي فاقت قسوتها ما نجم عن الزلزال.

نكبة السوريين في الجنوب التركي، وتشرد الناس دون مأوى دفعت بالكثير للاستفادة من قرار تركي رسمي سمح لهم بالعودة إلى سوريا لمدة تتراوح ما بين شهر و6 أشهر، وقد أعلن وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، عودة أكثر من 20 ألف سوري إلى بلادهم منذ وقوع الزلزال، وقال في تصريحات عقب قيامه بجولة تفقدية في المناطق المتضررة من الزلزال بمدينة أنطاكيا: “إن السوريين يعودون إلى بلادهم طواعية”، نافياً مجدداً “وجود حركة نزوح من السوريين إلى تركيا”، الأمر الذي سيزيد من معاناة الشمال السوري.

عمل المنظمات الإغاثية وبعض الشخصيات التي تعمل بالشأن الإغاثي لم يكن عملاً خالصاً لدى الكثير ممن امتهنوا عملية اقتناص الفرص واستغلال النكبات؛ فتسارعت الكثير من المنظمات الإغاثية لجمع واستلام التبرعات والمساعدات، ومنها ما كان صادقاً ومهنياً ومسؤولاً، أما القسم الأكبر منها زادت أرصدتها البنكية بعد أن باع موظفوها أو تلاعبوا بعمليات التوزيع.

 واندفعت شخصيات معروفة ومشهورة لتقتنص الفرصة أيضاً، ولتتسابق في التقاط الصور تحت يافطات أسماء المدن المنكوبة، ولتنشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، بعد أن أعلنوا عن حملات جمع تبرعات، ضاع معظمها بعد أن ذهبت لحساباتهم وأرصدتهم البنكية على حساب المنكوبين، ويحصل كل ذلك في ظل غياب كامل لأي مؤسسات محاسبة وتدقيق ومراقبة تتبع الحكومة السورية المؤقتة تشرف على عمل المنظمات الإغاثية.