القامشلي – نورث برس
تأثرت الحركة الثقافية، والمشهد الثقافي السّوري بصفة عامة، بالحرب الطاحنة في البلاد، وما تبعتها من تأثيرات هائلة لا تزال قائمة حتى الآن، فغابت الأنشطة الثقافية الكبرى، كالمهرجات التي كانت تقام سنوياً في كبرى المدن السورية.
من جهة أخرى وجدت مناطق، مثل شمال شرقي سوريا مجالاً رحباً وأرضية خصبة للتفاعل الثقافي، والإنتاج الفكري والأدبي، حيث برزت الكثير من مراكز الأبحاث والدراسات، والاتحادات التي أصدرت عشرات الكتب في شتى مجالات الثقافة والأدب وأقامت العديد من النشاطات الثقافية اللافتة.
تأثير الوضع الاقتصادي
يشير الكاتب السوري عبد المجيد قاسم، في حديث لنورث برس، إلى أنّ الحركة الثقافية اقتصرت على أنشطة محدودة للمؤسسات الثقافية الرسمية، وللمراكز الثقافية في المدن والبلدات السُّورية، وقلَّ النشر وطباعة الكتب الثقافية، سواءً على الصعيد الرسمي أو باقي قطاعات النشر.
ويعزو “قاسم” ذلك، إلى “الوضع الاقتصادي المزري” بسبب الحرب، مشيراً إلى توقف حركة جميع المطبوعات والمجلات الثقافية العربية التي كانت ترد إلى سوريا، حتى اندثر مشهد تزاحمها على أبواب المكتبات، عدا عن تلك التي كانت تصل إلى المشتركين عبر صناديق البريد مجاناً.
بين الحرب والحريّة
بدوره يرى الكاتب السوري جوان سلو، الذي أصدر مؤخراً عملاً قصصياً بعنوان (استغاثات فجر قتيل)، أنّ “الحرب أفرزت الكثير من المتغيرات على الساحة الأدبية والثقافية السورية، متغيرات فرضتها الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الكاتب السوري، وخلقت ثقافة موازية عند الكاتب جعلت منه ومن نتاجاته الأدبية جسراً يربط بين عالمين، عالم الحرب والمأساة وما يحوم في فلكها من لجوء ونزوح وقتل وتشرد ومصابين، وعالم الحرية المنشودة على طرقات الهجرة، وما يتبعها من سردٍ لقصص عبور الحدود”.
ويضيف “سلو”: “هنا وجد الكاتب نفسه يطارد أحلامه تارةً، بحثاً عن الأمل، وتارة أخرى يريد أن يجسّد المعاناة في كتاباته كنوع من ترسيم لحدود الذكريات، أو لنقل تحنيطها في ذاكرته، معتبراً أن المعاناة هي جوهر الإبداع”.
مشهد بائس
وحول المنجز الثقافي وتبعات الحرب، يصف الكاتب عبد المجيد قاسم، المشهد الثقافي بأنه “مشهد بائس بشكل عام”، رغم ما حقَّقته الثقافة السّورية من إنجازات محدودة، تعدَّت المحلية والعربية، ووصلت إلى العالمية، مثل إدراج عناصر سوريّة على قائمة التراث الإنساني الثقافي اللامادي من قِبل منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم “يونيسكو”، واستمرار الجهات “الرسمية” على إصدار دورياتها، وطباعة الكتب الثقافية، تأليفاً ونقداً وترجمةً، ورفد بعض دور النشر السورية المكتبة العربية بعناوين مهمة.
يتابع “قاسم”، منوّها إلى تلك المبادرات الفردية، التي عملت جاهدة كي تقول إنَّ للثقافة بعضاً من الحياة هنا، في محاولة منها للتأكيد على استمرار الحياة رغم الحرب، لكن كل ذلك لم يغطِ حتى ربع الأنشطة الثقافية التي كانت تُقام في أرجاء سوريا.
رفع السوية الثقافية
يقول الكاتب جوان سلو بأن “ما يسمى بثقافة الحياة، أو الحياة الثقافية وبعد سنوات من الحرب، ليست إلا واقعاً نسجه الكاتب وفق معطيات عاشها أو يتعايش معها لحظة بلحظة، لذلك فهي حياة متطورة، تتطور مع الحدث، ملتصقة به، لا تفارقه، فلا يستطيع الخلاص منها، إلا إذا أفرغها على صفحات كتابه، ظنّاً منه أنه بذلك يئدها، لكنه في حقيقة الأمر ينعش المعاناة والألم الذي عاشه في ذاكرته من جديد”.
وعن المعاناة جراء هذه الحرب يقول “سلو”: “الكاتب يضطرّ إلى العمل على الرفع من سوية الثقافة بعد تدهورها إثر الحرب، وانحدار مستواها الأدبي، وذلك بأن يكتب بضمير دون مواربة، أو تحيّز، فلا يتوقف نتاجه عن وصف الحالة الإنسانية، بل يبحث عن الحلول المشبعة بالأمل”.
لعلّ ما يعانيه القطاع الثقافي، ينسحب دون شك على باقي القطاعات الحيويّة في سوريا، فالحرب الدائرة في البلاد منذ أكثر من عقد من الزمن، قد أجهزت على كل ما هو حيّ، وما على المشتغلين في هذا المجال إلا النهوض كطائر الفينيق من رمادِ نارٍ لا تزال في أوج الاشتعال.