حول” الانصياع” والاستكانة لوليّ الأمر أو الرتبة الأعلى

ورد في المادة 16 من المرسوم التشريعي السوري رقم 14 لعام 1969 المتعلق بإدارة أمن الدولة أنه “لا يجوز ملاحقة أي من العاملين في الإدارة عن الجرائم التي يرتكبونها أثناء تنفيذ المهمات المحددة الموكلة إليهم أو في معرض قيامهم بها” لأنهم بمنطق من أصدر المرسوم” ينفّذون الأوامر” ويطيعون قيادتهم.

وإشكالية “طاعة أولي الأمر” والخروج عليهم، وتنفيذ الأوامر من دون نقاش ولا اعتراض أو مسؤولية، قديمة وتتكرّر باستمرار. وفي الثقافة الدينية والقومية والإيديولوجية خصوصاً هنالك ما يلفت: من جهة مصلحة النخبة السائدة بهدوء المجتمع، أو مصلحة القلّة الرافضة بفوضاه. كان الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط من الذين وقفوا عند هذه المسألة، وانقسم متلقّوه على الجانبين، كما في أي معالجة لمشكلة معقّدة. أي أن هنالك من رأى دعوة للطاعة- المغمضة العينين- وتنفيذ الأوامر من دون نقاشها لدى كانط من جهة، ومن رأى فيها تغليباً للمسؤولية الأخلاقية التي ينبغي أن تكون منبع الانصياع أو العصيان.

“حسب كانط، لا يحقّ لأحد أن يطيع، أن ينصاع!”، كان هذا ردّ حنة أرنت الغاضب على المذيع الذي كان يسألها عن كتابها حول أدولف آيخمان و”تفاهة الشر”، بعد حضورها محاكمته في القدس إثر اختطافه من الأرجنتين وتهريبه إلي إسرائيل. يبدو أن ذلك السؤال المتعلّق بكون آيخمان مجرّد موظّف يطيع الأوامر وربّما لا يتحمّل كلّ هذه القسوة في الحكم عليه، قد استفزّها، وخصوصاً عند ذكر استشهاد آيخمان بكانط استقواءً به. قالت أرنت إنه- حسب كانط نفسه- لا يحق لأحد الانصياع، ولا الاحتماء بفكرة أن هنالك اضطراراً محتوماً لتنفيذ الأوامر.

خلقت أرنت لنفسها تلك المشكلة وسوء الفهم، لمحاولتها التعمّق في دراسة شخصية آيخمان، واستعراض كونه شخصاً عادياً وموظّفاً بيروقراطياً لا يرى فيما يقوم به إلّا مجرّد مهمّة  لا تتداخل مع إنسانيته وميوله أو عواطفه بكلّ تفاهة. لكنّها كانت قاطعة باستنكارها لفكرة الانصياع للأوامر، والفصل ما بين المسؤولية الأخلاقية والمسؤولية الوظيفية.

نحن السوريين نعرف جيّداً تلك مقولة” العبد المأمور” التي تبرِّئ أو تخفّف كثيراً من الحكم على من نفّذ أو سهّل أو أفسح الباب للطغيان والاضطهاد؛ وسوف نواجهها كثيراً مع أولئك الذين قاموا بالتحقيق والتعذيب والتدمير والأذى ويدافعون عن أنفسهم بكونهم كانوا “ينفّذون الأوامر” التي سوف يعاقبون لو لم ينفذّوها؛ وفي الديانات السماوية أو الإبراهيمية كلّها ما يُمكن أن يكون ذريعة لذلك:

” لاَ تَسُبَّ الْمَلِكَ وَلاَ فِي فِكْرِكَ، وَلاَ تَسُبَّ الْغَنِيَّ فِي مَضْجَعِكَ، لأَنَّ طَيْرَ السَّمَاءِ يَنْقُلُ الصَّوْتَ  وَذُو الْجَنَاحِ يُخْبِرُ بِالأَمْرِ”. العهد القديم (جامعة 20:10)

حِينَئِذٍ ذَهَبَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَتَشَاوَرُوا لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ. فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ تَلاَمِيذَهُمْ مَعَ الْهِيرُودُسِيِّينَ قَائِلِينَ: «يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَتُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ بِالْحَقِّ، وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ، لأَنَّكَ لاَ تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ. فَقُلْ لَنَا: مَاذَا تَظُنُّ؟ أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟» فَعَلِمَ يَسُوعُ خُبْثَهُمْ وَقَالَ: «لِمَاذَا تُجَرِّبُونَننِي يَا مُرَاؤُونَ؟ أَرُونِي مُعَامَلَةَ الْجِزْيَةِ». فَقَدَّمُوا لَهُ دِينَارًا. فَقَالَ لَهُمْ: «لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟» قَاللُوا لَهُ: «لِقَيْصَرَ». فَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ». العهد الجديد (متى 22 :15- 21)

” وأطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم” النساء-59

وجاء في الحديث الصحيح: “تسمع وتطيع الأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك”.

 هنالك حول ذلك كلّه بحر من الأنباء والجدل والنقاشات، يفتح الباب على الوجهين في معظم الأحوال.

 مؤخّراً، قيل الكثير عن” القبيسيات”، بمناسبة وفاة الداعية الإسلامية منيرة القبيسي، التي أسست تلك الجماعة وطبعتها بمعظم طبائعها، وليس هنا مجال ولا اختصاص البحث في كلّ ما يتعلّق بالموضوع، إلّا ناحية واحدة: هي علاقة الجماعة بالسياسة، وإضرابهنّ عن ممارستها، بل منع ذلك بتشديد واضح. ولكن ما يعنينا هو مدى توافق تلك السمة مع واحدة من أهمّ استراتيجيات الحكم الأسدي منذ بدايته في سوريا، وهي منع النشاط السياسي وتحريمه، إلّا اللهم خارج ميدان الطلاب والعسكريين. أدّى ذلك إلى نزع السياسة من الاجتماع السوري، وترك الحقل حرّاً للطغاة.

ينسجم ذلك أيضاً ومن جهة أخرى، مع دعوة شيوخ السلطان إلى تجريم الخروج عن طاعة أولي الأمر. وكانت الصوفية عموماً والنقشبندية خصوصاً دوماً في طليعة من يشدّد على هذا الأمر بين المتصوّفة، ويعتبر الدعاء للسلطان بالهداية والصلاح، والعمل على تحقيق خطوات صغيرة متدرّجة بالرضا المتبادل، كافيين وافيين.

ولم يكن الشرط الذي يُلحق بطلب الطاعة عند استثناء الحاكم الكافر- الجائر- منه، كافياً إلّا مع توفّر ظروف وإمكانيات نجاح عملية الخروج عن الطاعة، حتى لا ينتج عن الأمر خسارات لا يمكن تعويضها، خصوصاً عند تغلّب الطاغية من جديد ولجوئه إلى القمع المطلق. ذلك الشرط الثاني؛ مع تحذير مرعب لمن يقوم بما من شأنه الفساد في الأرض أو الفتنة؛ كان كافياً لتأمين حتى الحاكم الكافر على حكمه، فكيف بذلك الحاكم الذي يتأسلم وينشر معاهد تحفيظ القرآن في كلّ مكان، رغم أنه يقتل الآلاف ويدمّر المدن بعد ذلك، وتكون النتيجة متساوية ما بين حالتي التمرّد أو القعود عنه؟!

في المناطق السورية التي يسود فيها ما تبقّى من نظام الأسد، ولا يسود فيها دستور ولا قانون؛ على الرغم من كلّ الرغاء في ذلك؛ تقترب الحالة من الفوضى والعماء، من المجاعة واستحالة الحياة، بعد استحالة الحرية لعقود. وينتعش السؤال كثيراً: لماذا لا يثور الناس؟ لماذا لا ينتفضون أو ينفذّون عصياناً مدنياً أو أيّ تعبير سلمي عن رفض الواقع وإرادة الحياة؟

هنالك رفض لدى شرائح عديدة، منها مالها علاقة بالأقليات وخصائصها العامة، بما فيها الأقلية التي يُلحق الحكم بها عن حق وعن زور؛ ومنها ماله علاقة بالبيئة المدينية/ التجارية الموروثة من زمن سحيق، وربّما أيضاً منها ماله علاقة بتركيبة رأسمالية تأقلمت مع الحالة، أو نفسية اعتادت الاستبداد وأنِسَت إليه، وإلى ” طاعة أولي الأمر” بخصائصها العثمانية على الأقل. هنالك أيضاً من يهمس: ألم تروا نتيجة الرفض والعصيان سابقاً، وكلّ ما حدث بعده؟ لن نكرّر ذلك وننخدع مرتين أو ثلاثاً… وهؤلاء من الذين حفرت تلك الحرائق في نفوسهم عميقاً.

قد تكون المسألة في الأخلاق ذاتها، التي ترى في” العصيان” ليس مخالفة للقانون، بل للعرف والدين والسلوك الموروث. وبالفعل فإن العصيان المدني هو عمل سياسي غير عنيف ملتبس قانونياً، ويتم القيام به لأسباب ودوافع أخلاقية (وهذا ما يميزه عن الجريمة). الحداثة ذاتها تتضمّن كون العصيان على الاستبداد التزاماً أخلاقياً ممتازاً، حيث يكون الالتزام بالقانون في دولة القانون أخلاقياً، ورفضه في دولة الاستبداد أخلاقياً.

الحديث عن العصيان المدني هنا مجرّد مثال، قد يختلف من حالة إلى حالة. المهم هو الرفض وتنظيم هذا الرفض، وذلك ليس صحياً في الفكر وعلم الأخلاق وحسب، بل هو حاجة لم يعد التملّص منها صحيحاً… هنالك تجارب جديدة ومختلفة تتبلور الآن، في السويداء ودرعا وغيرهما، قد تشكّل مرتكزاً ما لتغيير حالة العجز والاستكانة الراهنة إلى شيء آخر، وقد لا تفعل.