شيء عن الكارثة وأخلاق السياسة

أظهر تحليل نتائج استطلاع أن ردّ فعل الناخبين الأمريكيين كان سلبياً للغاية على طريقة تعامل ترامب مع كارثة وباء كورونا. وقد أثّرت ردود الفعل هذه على حجم التصويت لصالح ترامب وعلى نتيجة الانتخابات؛ بعد أن كانت لديه فرصة ولو ضئيلة لضمان الفوز. تعامل ترامب بشكل معادٍ لاعتبارات الحيطة والأمان، بما فيها متطلبات التعقيم واستخدام الكمامة والتباعد، وبطريقة ساخرة ومضحكة أحياناً.

 وفي كارثة الزلزال على الجانب السوري، وفي مناطق” المعارضة” خصوصاً، كذلك اعتبر مارتن غريفيث وكيل الأمين العام للأمم المتحدة ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ اليوم الأحد أن المنظمة خذلت السكان شمال غربي سوريا. وقال في تغريدة على تويتر “لقد خذلنا سكان شمال غربي سوريا حتى الآن… إنهم على حق في شعورهم بالتخلي عنهم.. هم يتطلعون إلى مساعدة دولية لم تصل أبداً”. وأضاف قائلاً “واجبي والتزاماتنا تصحيح هذا الإخفاق بأسرع ما يمكن”.

لذلك يمكن أن نعالج في هذا المقال قليلاً علاقة مسألة الأخلاق والسياسة، أو السياسة الأخلاقية، أو أخلاقيات السياسة، وما حدث ويحدث هناك. في الممارسة السياسية الدولية الحديثة، هنالك تركيز في أيّ نزاع على إظهار” التفوق الأخلاقي” لدى أحد الطرفين، كميزة تلعب دوراً في حسابات التسوية والمواقف الداخلية والخارجية من النزاع.

في الحقيقة لا يقرّ كثير من أهل السياسة في العالم كلّه بدور لهذه الموضوعة، عملياً ومع التمويه في الدول والمجتمعات الديموقراطية، وعملياً من دون أي تمويه في البلدان والمجتمعات الأخرى. يظهر هذا بقوة وفظاظة في منطقتنا. يعتزّ أهل السلطة هنا بقراءتهم أو معرفتهم بما قال نيكولو ماكيافيلي حول مسائل الأخلاق السياسية والذي كان- على عكس أرسطو- يعتقد أن الزعيم السياسي قد يُطلب منه التصرف بطرق شريرة إذا لزم الأمر للحفاظ على سلطته. كذلك فإن للمبادئ الأخلاقية- والدينية- دوراً ثانوياً فقط، ولا ينبغي بأي حال من الأحوال أن تكون عائقاً أمام ممارسة السلطة السياسية. كان أحد أسباب مكيافيلي لفصل السياسة عن الأخلاق زعمُه أن هذا الفصل أكثر صدقًا مع حقائق الوجود البشري. وأن اهتمام الحاكم ينبغي أن يتركّز على الاستحواذ على السلطة والاستمرار فيها. ويلاحظ أحد الباحثين أن ماكيافيلي كان يتحدث عن السلطة في حد ذاتها بدرجة أقل بكثير من الحديث عن “الحفاظ على الدولة”، كما هو وضع العديد من الحكام في منطقتنا ودأبهم على ذوبان المفهومين معاً واحتواء أحدهما للآخر.

الأخلاق السياسية (وهي معروفة أيضاً باسم الأخلاق السياسية أو الأخلاق العامة) هي ممارسة وإصدار للأحكام الأخلاقية على العمل السياسي أو المسؤولين السياسيين، من حيث أخلاقيات العملية- أو المنصب- وطرق العمل السياسي وآلياته أو أدواته. كذلك هنالك أخلاقيات سياسية تتعلق بالتشريعات والمراسيم والسياسات بوجه العموم.

لننظر قليلاً ومبدئياً في أخلاقيات السياسات لدى عدة أطراف أمام كارثة الزلزال الذي فقدنا فيه عشرات الآلاف من الأتراك والسوريين حتى الآن، وكانت فضيحة التعامل مع نتائجه وآثاره في شمال غرب سوريا مدوّية بالكثير من الغضب والمزيد من الدماء والدمار الزائدين. ولعلّ المعنيين يذكرون جيّداً دور الغضب واليأس والفاقة في توليد وتخليق الإرهاب وتطويره!.

 فيما يخصّ الأمم المتحدة، لم يجد السوريون طرفاً يعبّرون عن غضبهم منه أكثر أماناً لهم منها، وهم كانوا على ذلك متفقين منذ زمن، حتى في الاستناد إلى جدار المنظمة الأممية الحيادي أكثر من غيره في مجال العملية السياسية والبحث عن حلٍّ لمعضلتهم. هي الشرعية الدولية على الأقل، ومكتبة الشرائع المعاصرة.

أتى الرد اعتذاراً واعترافاً بالخطأ من قبل غريفيث وليس من غوتيريش، لكنه الحد الأدنى- العتبة- التي تشير إلى التزام بأخلاقيات السياسة، تتحوّل إلى مجرّد مناورة سياسية ما لم يتبعها استدراك لذلك الخطأ والتعويض عنه بالسرعة الكلّية. تتمتّع الأمم المتحدة أيضاً بسلطة معنوية وإجرائية كان يمكنها استعماله لحشد الدعم والسلوك الصحيح من بعض الدول المعنية التي أدارت أذناً طرشاء في الأيام الأولى الحاسمة.

الطرف الثاني الذي ينبغي الوقوف عنده- أصولاً- هو الحكومة التركية، التي لديها من الأعذار المخفّفة ما يضفي بعض التعاطف على الانتقاد، لأنها البلد الذي احتمل الجزء الأكبر من الزلزال ومن الضحايا والخسائر. ومن المعروف والمأثور عن السياسيين الترك جدّيتهم وعصبيّتهم وانكبابهم على ما هم فيه، إضافة إلى الروح القومية العالية. رغم ذلك، لم نشهد اهتماماً في الأيام الأولى الحاسمة أيضاً وتعاوناً في فتح المعابر مع شمال غرب سوريا، لتستطيع الجمعيات والدول الأخرى أن تسهم في تخفيف المصاب السوري.

هذا الطرف الثاني نفسه يتحمّل أيضاً مسؤولية عدم وصول المساعدات من داخل سوريا- من شمالها الشرقي- وعدم الترخيص للفصائل” المعارضة” لتفتح معابرها قرب منبج خصوصاً أمام تلك القوافل، التي كان يمكن أن تسهم في التخفيف أيضاً من صعوبة الحالة السائدة. هنا لم يكن التركيز على الكارثة مانعاً من الملاحقة الصلبة لموضوع” أمنها القومي” وحساسيتها الفائقة من الإدارة الذاتية بالتحديد. هذا تنفيذ عملي كما يبدو لحديث رسمي عن” عدم السماح لأحد بالاستثمار في الكارثة”.

الطرف الثالث هو النظام السوري، نظام الأسد. ولم يكن سلوكه إلّا استمراً لنهج يعرفه العالم، تحوّل من نظام سلطوي استبدادي إلى حالة من الفوضى، تحكمها عصابات متفرقة يسودها أمراء الحرب وتجّاره، المحليون والمستوردون، من لبنان والعراق وإيران وأفغانستان؛ ويموّلها الفساد الذي لا يتورّع عن بيع المساعدات الإنسانية نفسها، والتضخّم الذي يشقّ عنان السماء، وتصنيع وتجارة الكبتاغون. لم يأت أيّ ذكر حتى كتابة هذا النصّ عن التحقيق في الفساد الذي جعل المباني تسقط كالبسكويت، ومنها مبنى موبيلي توب الضخم في أطراف اللاذقية، الذي انهار بكامله خلال دقائق؛ ومنها تلك القرية القريبة من اللاذقية- سطامو- التي دفعت ثمناً لم تدفعه القرى حولها. تأخّر الأسد طويلاً ولم يسمح بمرور المساعدات عن طريق المناطق التي يحكمها أيضاً، وفاتت الأيام الأكثر حرجاً للإنقاذ والغوث.

الطرف الرابع هو فصائل” المعارضة” التابعة لتركيا، التي وقفت جانباً، وتدخّلت حيث يجب أن تعفّ- عند المغنم-، وظهرت فيها معالم الانقسام العرقي واضحة في تمايز شدّة غِلظة السلوك أمام الآخرين والمأساة. وفي هذا الطرف، تتميّز أيضاً هيئة تحرير الشام( جبهة النصرة) المصنفة إرهابية من قبل المجتمع الدولي، والتي تحكم إدلب من خلال” حكومة الإنقاذ” كما تحكم الفصائل الأخرى والائتلاف من خلال” الحكومة المؤقتة”. وحين تحدثت الأمم المتحدة عن أن سبب تأخر ورود المساعدات عبر أراضي النظام هو انتظار موافقة” المعارضة” طويلاً، ومعروف على الأرض أنها كانت تقصد هيئة تحرير الشام. لقد أخذ زعيم تلك الهيئة الإرهابي المعروف” أبو محمد الجولاني” في تغيير جلبابه مؤخّراً، تحضيراً في ما يبدو ويُشاع من أنه على طريق التسوية الخاصة مع النظام. هذا الانقلاب السياسي والموقف من الكارثة كلاهما يعكسان انحطاطاً أشدّ في الموقف الأخلاقي، الذي لا تأبه به النصرة أساساً محتمية بمظاهر التديّن المتشدّدة الغاشمة.

الطرف الخامس، هو قسد ومسد والإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، الذي يمكن أن يتعرّض- وهو يتعرّض- لنقد يخصّ مساره وسلوكه اليومي وشموليّته وأي شيء آخر، ولكنه كان أمام الكارثة متفوّقاً أخلاقياً… لقد حشد ووافق على حشد المساعدات: من قافلة نفط كبيرة قدمته الإدارة بعد أن اعتبرت مجموعات الإنقاذ البرد القارس العدوّ الأكبر بعد إخراج الضحايا والمصابين من تحت الأنقاض؛ إلى قوافل أخرى كبيرة جمعتها هيئات المجتمع المدني المختلفة، وغيرها أيضاً جاء بقافلة مشهودة من أهل دير الزور والرقة وعشائرها( سُمح لها بالمرور في اليوم التاسع)، ومن مواطني الجزيرة عموماً، وكله حيث السيطرة لقسد ومسد. قامت الإدارة الذاتية نفسها بذلك وشجعت الناس عليه، ووقفت القوافل كلّها تنتظر الإذن من الباب العالي ومن أبو عمشة قائد فرقة سليمان شاه(؟) وأمثاله من قادة الفرق الشبيهة.

هي محاولة للبحث في مستوى الأخلاقيات السياسية، لا بدّ من قولها، ولو انتقدها آخرون لأسبابهم الشتّى. وهي تتضمّن الإشارة إلى أن طريق الإنعاش من الكارثة ما زال طويلاً، ولا بأس من المنافسة الأخلاقية- السياسية فيه، ولكلّ مقام مقال.